Saturday 12th June, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,السبت 28 صفر


التعليم
(2) غاية التعليم في فن التلقين والتلقيم!
د, فهد سعود اليحيا

لعلي ذكرت هذا في مقالة سابقة ولكن لا بأس من اعادتها, عندما ذهبت للدراسة في معهد الطب النفسي بلندن كان يطلب منا إعداد Essay ويعني مقالة علمية أو بحثاً موجزاً, وقالوا لنا انه يتكون من بضع صفحات ويبدأ بالمقدمة، يليه المتن، ثم المناقشة، وينتهي بالنتيجة او الخاتمة, والمواضيع التي يطلبها المشرفون من صلب دراستنا، وليست غريبة عن تخصصنا,كما انه بحث نظري يعني: النظر في بضعة مراجع من كتب ومجلات علمية, الأمر هكذا يبدو بسيطا - وهو بسيط في الواقع - ولكنه بالنسبة إلينا نحن العربان وزملاءنا من العالم الثالث كان مصيبة المصائب, فإذا صادفت زميلاً مكفهر الوجه ينفث أنفاسه الحارة كقدر ضغط وسألته: خير إن شاء الله فسيجيبك بأن المشرف طلب منه بحثاً موجزاً عن الموضوع الفلاني.
وعندما كانت تطلب مني مشرفتي ان أعد بحثاً موجزاً - وكانت كثيراً ما تطلب ذلك - لم يكن الطلب مصيبة بالنسبة إلي فحسب بل إلى زوجتي فتعلن حالة الطوارىء لأن سعادة الزوج يعمل على إسّي ، اكون في غاية الضيق والتوتر وابحث عن أي شجار يلهيني عن المطلوب ولذلك كانت تقطع الطريق علي بتجنبي وسد الباب الذي يأتي منه الريح, ومع ذلك كانت ابحاثي الموجزة متواضعة جداً كما كانت مشرفتي تلحظ الضنك والضيق الذي يتملكني من جراء الإسى فسألتني ذات يوم: ألا يعلمونكم على الابحاث في الثانوية مثلا؟ فأقسمت انهم لم يفعلوا ذلك حتى في الكلية,فقالت بكل هدوء: انهم هنا يدربون الطلبة على الابحاث من المرحلة المتوسطة! كان هذا الحوار كفيلاً بأن تعطف عليّ ولاتقسو بالنقد ولكنها لم تكن تخفي ضجرها مني فأنا بنظرها لست بحاجة إلى مشرف دراسات عليا ولكني بحاجة الى مشرف مرحلة ثانوية يعلمني ألف باء البحوث الموجزة!
بعدها، ربما بأشهر، كنت أزور القرطاسية التي تقع في نفس العمارة وكان ابن مالك القرطاسية هناك يحمل ورقة منسقة وقلماً ويبادر كل زبون بقوله: مساء الخير سيدي (أو سيدتي) اني أقوم ببحث مطلوب للمدرسة، هل من الممكن ان تجيب على بعض الأسئلة؟ ثم تأتي الأسئلة في اي منطقة تسكن؟ لماذا تأتي إلى هذه القرطاسية بالذات؟ هل هي أول مرة أم أنك زبون دائم؟ هل تأتي بالسيارة أم بالأوتوبيس أو سيراً على الأقدام؟ وهكذا اسئلة بسيطة ووقت لايتجاوز الدقائق الخمس, والأجمل من ذلك أن هذا البحث المدرسي لم يطلب منه، وهو في الصف الاول او الثاني المتوسط، الذهاب بعيداً عن المنزل، او كان ثقيل الظل، بل علىالعكس كان مفيداً له ولعائلته لأنه كان كثيرا مايساعد والديه في المكتبة.
ساعتها تذكرت اني عندما كنت في مثل سنه تقريبا وربما في نفس السنة الدراسية لفتت نظري الثياب الجاهزة المعلقة في دكاكين خان البخارية في سوق الطائف, فكان المشتري يقدم مع طفله ويطلب من البائع ثوبا لهذا الغليِّم فينظر البائع إلى طول الطفل ويختار له ثوباً وكثيراً ما كان المقاس مضبوطا, لم يكن هذا مصدر حيرتي فتقدير الطول ليس صعباً ولكن كيف يتم تحديد طول الكمِّين مسبقا لذلك الكم الهائل من الثياب المعلقة على جانبي الخان, ورأيت ان الحل ان اقوم بقياس اطوال قامة افراد عائلتي الممتدة القاطنة في ذات البيت واقيس اطوال اذرعتهم ثم أجد النسبة, بعض الكبار قالوا لي: أها بس رح وربما قال احدهم طس بدلا من رح, ولكن البعض تطوع وسمح لي بالتمتير وكل الأطفال وافقوا على الاشتراك بالدراسة وكانت النتيجة ان نسبة طول الكم إلى طول الثوب هي 13,7! فرحت طبعا بهذه النتيجة, ولم ينتبه أحد، ولم انتبه انا، إلا اني إنما كنت اقوم ببحث ميداني, وكان هذا اول وآخر بحث ذي قيمة لي حتى ساعة كتابة هذه السطور!
وقلت لنفسي لو وصل هذا الطالب - ابن صاحب المكتبة - إلى معهد الطب النفسي وطلب منه ان يقدم إسي عن موضوع ما فلن يرى مشكلة في الأمر، وبالتأكيد لن يكون مثلي او مثل اقراني، ذلك انه قد تم تجهيز دماغه وتدريبه عبر سنوات طويلة للبحث والاستقصاء والملاحظة أما نحن فقد نامت تلك الأجزاء لدينا - إن لم تكن قد ضمرت - وتضخم جزء صغير معني بالحفظ والصم والتلقين والإعادة كالببغاوات.
معذرة إذا اسهبت في الحديث عن خبرتي الشخصية ولكني أراها خبرة معظم الطلبة, فهو نفس نظام التعليم.
طبعا لا أدعو هنا إلى إضافة مادة البحث للمرحلة المتوسطة او الثانوية فحسب وكأن هذا غاية المراد, ولكني ادعو ايضا الى تغيير جذري في فلسفة التعليم ونظمه واساليبه, قد يكون الأسلوب السائد والمستقر منذ افتتاح اول مدرسة نظامية مناسبا للعقود الخوالي اي للعشرين أو الثلاثين سنة الأولى من عمر الدولة السعودية الرابعة من حيث الموارد المالية والبشرية ودرجة الثقافة الاجتماعية عامة والمرتبة الحضارية وطبيعة المرحلة من التشرذم إلى الاستقرار وبناء أسس الدولة الحديثة ولكننا الآن بحاجة إلى تغيير كيفي ونوعي إذ اكتفينا من التغيير الكمي,,وبعيدا عن اية سفسطة فكرية وحذلقة لغوية أدعو ببساطة الى نبذ الحفظ والصم والتلقين والتقليم بالملعقة والمغرفة كأسلوب وحيد أوحد للتعليم، فهو أسوأ وسائل التعليم ولكني ادعو إلى ترك المجال لنمو عقل الطالب وتوسيع معارفه ومداركه وترك الفرصة للإبداع والابتكار في التعليم وذلك بغرس حب الملاحظة والبحث والاستقصاء.
تخيلوا دهشة طفل عندما يجد انه عندما يجمع واحدا الى واحد يجد ان المجموع اثنان! سيفرح ويجد متعة بالمعرفة وتجد المعلومة طريقها السلس الى دماغه في مقابل ان له: احفظ ياولد! واحد زائد واحد يساوي اثنين.
هناك رواية تعليمية فلسفية اسمها عالم سوفي (الترجمة على الغلاف عالم صوفي ، واعتقد انه بهذا الشكل يوجد اللبس) لأستاذ فلسفة في إحدى جامعات النرويج ويقدم تاريخ الفلسفة ويستعرض عددا من المدارس الفلسفية بأسلوب قصصي بسيط سلس أخاذ, قراءة ذلك الكتاب او تلك الرواية استلزمت مني وقتاً وتركيزاً شديدين ولكني فوجئت بعد فراغي منها انها مكتوبة للناشئة وطلبة المرحلة الثانوية بالذات!! ويقينا ان هذه الرواية أحسن مما يدرس لطلاب الفلسفة في معظم الجامعات العربية,وقد يقفز أحد القراء ممتشقاً حسامه فيقول: هل تدعو إلى تدريس الفلسفة؟! فأبادر ان هذا ليس مجال حديثنا ولكن حديثي يدور حول ابتكار وتحديث اساليب التعليم وتلك الرواية مجرد مثال ان الحياة لاتخلو في كل يوم من جديد واساليب جديدة,والله وبالله يصعب علي منظر الأطفال الصغار يجرجرون حقائب منتفخة بكتب أكبر من اجسامهم, ويصعب علي ان ارى طفليًّ يخرجان من امتحان إلى امتحان مرة دوري وتارة نصف سنوي وآخر نهائي, وكأن السنة الدراسية سلسلة من الاختبارات بين حلقاتها حصص تدريس, وكأنما خلق اولئك الأطفال ليخرجوا من امتحان الى آخر، ثم ذلك الشعار الذي يتشدق به عدد من المعلمين والمعلمات: في الامتحان يكرم المرء أو يهان لا بارك الله في امتحان فيه إكرام او إهانة!!من له اصدقاء في سلك التدريس الجامعي يسمع منهم مر الشكوى في تدريس مادة البحث, فبينما بعض الطلبة يحيرون مثل الوجي الوحل يأتي بعضهم بابحاث مكتوبة بأعلى مستوى والتفسير الوحيد ان هناك من يقدم خدماته في إعداد البحوث الطلابية! إذ يفاجأ الطالب ببعبع اسمه مادة بحث وتكون غاية مراده الحصول على درجة المادة وبعدها في الطقّاق ! فالبحث مادة دراسية والسلام!أتراني اوضحت ما اريد قوله: إن لم افعل فالعذر والسموحة ولكن لعلي ألقيت حجرا في بركة ماء,,أعلن ان الشق أكبر من الرقعة, واعلم ان تعديل المناهج الدراسية واساليب التعليم لتبتعد عن التلقين والتلقيم الى البحث والملاحظة والاستقصاء يتطلب جهودا حثيثة مغلفة بالضنى والضنك, ولكن على قدر أهل العزم تأتي العزائم المتنبي ومشوار الالف ميل يبدأ بخطوة واحدة ماو تسي تونج وكل المشاريع الجبارة في التاريخ كانت يوماً ما مجرد فكرة شخصية إيمرسون فلنضع لبنات في جدار يكتمل بناؤه بعد عشرات من السنين ولن نندم, فستقطف الأجيال ثمرة ما غرسناه.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الاقتصـــادية
القرية الالكترونية
المتابعة
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
وطن ومواطن
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved