Sunday 4th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 20 ربيع الاول


ذرف
الغموض في الشعر!
عدنان الصايغ *

يرى القاضي الجرجاني انه ليس في الارض بيت من ابيات المعاني لقديم او محدث الا ومعناه غامض مستتر ويرى ابن الاثير ان الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه الا بعد مماطلة منه ويرى حازم القرطاجي ان القارىء بعد ان تغيب عنه اسرار الكلام وبدائعه نجده يصرف النقص الى الشعر بدعوة انه مبهم والنقص في الحقيقة راجع اليه وموجود فيه ويرى ريتشاردز ان الغموض في الشعر قد يعود اما الى عجز القارىء عن استيعاب الدلالة او عجز الشاعر عن التوصيل الذي يؤدي الى الابهام ويرى رومان ياكبسون ان الغموض احد خصائص النص الحديث وانه الصفة الداخلية الوشيجة التي لا يمكن ان تمحى من كل رسالة تتمحور حول ذاتها ويرى جون كوهين ان الغموض في القصيدة اساسي بالنسبة اليها ولكنه ليس مجانيا, انه الثمن الذي تدفعه مقابل ايضاح من نوع آخر والخ، والخ، والخ، مفتتحا لقراءات عدة تأخذ مستوياتها المتعددة والمختلفة تبعا لاختلاف تأويل المتلقي فيكون للنص - تبعا لذلك - عدة مستويات للقراءة، وهذه المستويات تقترب احيانا من النص وتبتعد عنه في احيان اخرى حيث تكون هذه المسافة بينهما عادة مسكونة بالغموض والضباب بحيث لا يمكن رؤية مشهد النص كاملا لكننا يمكن بتأمله وهذا ما يقودنا الى متعة اضافية يوفرها لنا الحدس والتأويل والمخيلة.
غير ان بعض النصوص تسقط في بئر الظلام والتعمية الكاملة فلا نرى منها شيئا وبالتالي فانها لا يمكن ان تفتح لنا مجالا للتأويل او فسحة للتأمل او مساحة للمعرفة او وقتا للمتعة.
ومن خلال هذا يجب التفريق بين هذين النوعين من الغموض: اي الغموض بوصفه خطابا - مغايرا للسائد المباشر - بما يملكه من طاقة ايحائية تزيد النص دلالة ولذة,, وبين الغموض المقفل الذي يعتمد على العلاقات الغرائبية بين الالفاظ المعجمية والتي لا يمكن ان تمنحنا سوى شكل معقد من الالغاز التي يستعصي فك رموزها اللغوية والبلاغية المفبركة اصلا.
فالغموض المبدع يتيح لنا ان نرى من خلال غلالته الشفيفة شيئا من العالم الذي يدهش ويومض خلف تلك الغلالة بصورة اكثر جذبا وجاذبية وهو بعكس التعمية التي لا يمكن ان نرى من خلال حجابها الكونكريتي شيئا سوى الظلام الدامس والعدم الذي لا يفضي الى شيء, هذا من جهة الرؤية اما من جهة الاسلوب فان العمى الكامل يقترب من المباشرة الكاملة التي هي اشبه بكاشفات الضوء التي تسلط عليك ضوءاً باهرا فلا يمكن ان ترى شيئا ايضا وهكذا تلتقي المباشرة والاستسهال مع الغموض، التعقيد فالاول يقدم لك الصورة الشعرية بشكل فج وساذج ومباشر لا ايحاء فيها ولا مخيلة، بينما لا يقدم لك الثاني شيئا على الاطلاق.
وهذا التخبط الذي يأتي من خلال قصور الرؤية الشعرية وضعف الادوات ونقص الثقافة والادعاء وارتباك الوعي، يقود النص او يقودنا الى التعمية والتضليل، فيأخذ الغموض شكلا آخر وتتعقد الصورة ويتنافر المشبه والمشبه به، ويبتعد الدال عن المدلول اكثر مما تسمح به ذهنية المتلقي ومخيلته بالاضافة الى كسر العلاقات اللغوية والاسلوبية والبلاغية كسرا فجا.
ان الغموض الفني، عكس هذا يحتاج الى فهم كامل للعلاقات بين عناصر الصورة الشعرية والتناسق اللغوي والتشكيل السردي والمرجع وعلم الدلالة والانزياح وتوتر الفجوات والتعاشق بين المخيلة والصورة والتأويل حيث يعطي النص اكثر من مدلول ويأخذ اكثر من شكل واحالة، فيخرج عن المألوف المعروف وهذا الخروج يباعده عن دائرة المتلقي السهل ويقربه من دائرة المتلقي المبدع - الكاتب الآخر، بما يملك من مرجعية وتجربة ودربة ومخيلة تجعله يعيش لذة ومتعة في قراءة النص, وهذا يقربه من فهم الشاعر الحديث ونصوصه التي تحتشد بغرائبيتها ومجازاتها واستعاراتها واحالاتها للنصوص الغائبة بالاضافة الى استحضار الاساطير ودلالاتها وانزياح اللفظ عن معناة حيث يشكل باطن الشاعر مصهرا كبيرا لكل هذه المدلولات التي يقوم بصهرها واعادة صياغتها من جديد او يفكك تركيباتها ويعيد تشكيلها وفق رؤيته الحداثوية وفي هذا الصهر او التشكيل تتجلى قدرة الشاعر المبدع على اعادة تركيب الصورة واللغة والعالم كما يراه بينما يتخبط الآخرون في مجاهل ودهاليز الغموض الاعمى دون ان يتمكنوا من معرفة اول الطريق او آخره وهذا التخبط هو الذي ملأ مكتبات اليوم بهذه الاكداس المكدسة العمياء التي يسمونها جزافا شعرا وهو عبارة عن ضرب في هواء الكلام، وبالاضافة الى عدم جدواه فهو يشكل سياجا معرقلا ومعوقا امام الذائقة للوصول الى النصوص المبدعة حيث يشكو كل الشعراء هذه الايام من خطورة القطيعة بين القارىء والشعر.
* شاعر عراقي مقيم في السويد

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved