Sunday 4th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 20 ربيع الاول


الانسان بين الحرية والتاريخ
د . نذير العظمة

انه لعالم مدهش حقاً هذا العالم الذي نعيش فيه، تتغير فيه الوسائل وتبقى الغايات على ثباتها، اي مجتمع في هذا العالم القائم على تواصل الحضارات وتبادل المنافع والمعلومات يسعى في الجوهر الى صلاحه ومنعته وبقائه.
والمجتمعات التي تتمتع بالوعي وتتسلح بالمعرفة والعلم تقف بأقدام ثابتة في صراع الحضارات اما فقدان الوعي بشخصية الأمة وبمصالحها الجوهرية العليا فانه لا يمكن ان يعوض مهما توفرت الوسائل التقنية والأدوات التي تفرضها المدنية.
ان احترام الانسان والعقل والحرية هو في جوهر الحضارات التي نمت وانتشرت وسيطرت على نبض العالم وحين تفتقد المجتمعات واحدة من هذه الركائز الثلاث تتدهور وتتسارع خطاها الى الهلاك.
اي مجتمع يكون فيه الانسان مهدداً لا يمكن ان يكون مجتمعا طبيعياً يحيا وينتج ويعطي لان الإنسان هو الرأسمال الاساسي على هذه الأرض ، والذين لا يحترمون الانسان لا يولدون حضارة ولذلك استخلف الله الانسان على الارض, واي مجتمع لا يؤمن بالعقل وقدرته على رؤية الحياة رؤية موضوعية مفهومة يرسف في الجهل والخرافة وهذان يقودان الى الاستبداد والتحجر والموت.
ان العقل قادر على حل مشاكل الانسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ضوء العلوم الانسانية ومعارفها، والحياة ليست قادرة على التحرك بخطة متوازنة الا في ضوء العقل اما التعصب والخرافة وعمى البصيرة فلا تؤول الا الى الخراب.
واما الحرية فهي المناخ الملائم الذي يتحرك فيه الانسان ويعمل العقل، والطغاة الذين يحركهم الشر يصادرون اول ما يصادرون الحرية وهدفهم ان يكبلوا العقل وان يهيمنوا على الانسان فالطغيان في الفكر والسياسة والاجتماع هو بذرة الموت التي تهدف الى تدمير روح المجتمع وجوهره.
حين سيطرت اثينا على العالم والحضارة سيطرت باحترام الانسان واحترام العقل واحترام الحرية.
وحين سيطرت روما ووريثتها على العالم قامت سيطرتها على الركائز الثلاث اياها وحين غالت في استعباد الشعوب وصادرت حرياتها واكلت ثمرات اتعابها لم تحصنها ادارتها القوية وقوانينها المشهورة واباطرتها وجيوشها وشبكات طرقها خلخلتها من الداخل المسيحية المضطهدة وتصالحت عليها قوى العرب من الخارج بهداية الاسلام فقضى على سيطرتها واستعاد توازن قيم الحضارة الثلاث الانسان والعقل والحرية قاطعاً في مضمارها اشواطاً جديدة كثيراً ما يتساءل الواحد منا كيف سقط الاتحاد السوفياتي من الداخل بعد ان حقق سجلاً حافلاً من الانجازات العلمية ولا سيما في علوم الفضاء واستكشافاته المبكرة حتى انه كان سابقاً ورائدا للولايات المتحدة في هذا المجال في بعض مجالات الفضاء.
ان الانجاز العلمي وحده لا يكفي لقيام دولة او بناء حضارة فالعلم هو جانب مهم من نشاطات العقل وفعالياته في المجالين الطبيعي والانساني على حد سواء لكن الجانب الآخر من العلم وفعالياته التي لا تقل عن الجانب العلمي هو الجانب المعرفي للانسان وطموحه واحلامه وتوقه الى اقتحام المجهول والمغامرة ومساؤلة المصير والكون وحرية الارادة هذه كلها بالاضافة الى العلوم الانسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم الاناسة وعلم الاثار وعلم التاريخ وعلوم اللغة والأدب والقصة والتفسير هي فعاليات لا يمكن التهوين من امرها او اعتبارها في الدرجة الثانية من العلوم الطبيعية.
ان الاثم المدمر الذي ارتكبته عقيدة الاتحاد السوفياتي الشيوعية هي انها منحت العقل حريته العلمية في العلوم الطبيعية حتى انها اعتبرت الماركسية والمادية التاريخية علماً كعلوم الكيمياء والفيزياء والرياضيات وان الاجوبة عليها معروفة وجاهزة وان الاسئلة المشككة التي تمنح مساحة للحرية والشك في ظل النظام هي ضد العقل وضد العلم.
وبهذا قوضت عقيدة الدولة الانسان من الداخل ودمرته بتدمير جانب اساسي من فعالياته الفكرية وتدمير حريته بتسويرها وتحصينها او قل بسجنها لعقيدة الدولة حتى الموت, وبهذا قضت الدولة على اهم ركيزتين من ركائز الحضارة هما الانسان والحرية وصارت ما لهما من مساحة العقل فتآكلت الدولة من الداخل وانهار النظام وانهارت العقيدة.
ولم يحتج الاتحاد السوفيتي الى جيوش من الخارج لتقوض نظامه فقد تآكل من الداخل وفي الصميم اذ ارتفعت عقيدة الدولة الى مرتبة المطلق واصبح الانسان وحريته وعقله اموراً جزئية ومنسية.
وما التاريخ غير انعكاس للجدلية المادية، الدولة وحدها تفسر الحياة والمصير والفن والموت، والعقيدة تملك كل الأجوبة وبسقوط الايديولوجيا المهيمنة تغير ذلك كله وعادت روسيا كغرب منشق والدول التابعة لها الى الحضارة الغربية الأم تبحث عن اجوبة لأسئلتها المؤرقة.
ولم يحم روسيا انها قوة نووية لانها فرطت بالانسان والحرية في عهد اباطرة الشيوعية كما فرطت بهما في المراحل اللاحقة فكانت كعملاق مجوف القلب والعزيمة.
والذي استرد روسيا الى العودة الى الذات القومية مجددا في اطار عالم حر يؤمن بالتعددية هي الانشقاقات الفكرية والروحية التي قام بها المفكرون والفنانون والشعراء فهؤلاء هم الذين استعادوا للعقل حريته وللانسان طموحه وغماره وشكه بينما كانت الدولة تعلنهم خارجين على العقيدة وقوة متواطئة لتدمير الدولة.
اما العلماء الذين حققوا ما حققوا للنظام والدولة والعقيدة فقد ظلوا على وئام تام معها، وتحول قسم منهم بعد سقوط النظام الى تجار وسماسرة يساومون على ربح اثيم من بيع منتجات الدولة النووية.
أما نحن، فكيف تمت ولادتنا الجديدة من رحم الماضي وخرجنا الى زمن النهضة والازمنة الحديثة؟ هل استطعنا حقيقة ان نعلق تقويم انساننا العربي على صدر التاريخ ام اننا دخلنا شبكة الزمن الاوروبي والغربي ولم نستطع الخروج منه ما نزال مقيدين بسلاسله واغلاله منذ حملة نابليون على مصر (1779م) ونحن نشد اوتار حناجرنا بنشيد النهضة.
لقد أ يقن رواد النهضة ان الاحياء هو السبيل الى مغالبة الموت وان السبيل الوحيد لاسترداد الحياة هو ان يصح العزم وتصح الارادة على استكمال اسباب المعرفة معرفتنا بأنفسنا ومعرفتنا بالآخر من خلال احترام العقل والانسان والحرية ومعرفتنا بانفسنا سلكت سبل الاحياء على كل المستويات الاحياء اللغوي والاحياء الثقافي والاحياء الديني لكي نواجه الموت والسلاسل التي كانت تكبلنا وتمنعنا من النهوض والحركة.
ومعرفتنا بالآخر تمت من خلال البعثات والترجمة وانتشار التعليم الحديث والاستشراق والايمان بالعلم لحل مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
ولكون عالمنا العربي موحداً في اللغة والمصير والتاريخ ومتعددا في خصوصياته الثقافية اضفنا الى احيائنا المتعددة بالضرورة الاحياء الحضاري.
ان المعرفة والابداع والحرية هي سبيلنا الوحيد الى النهضة لذلك سارع شعراؤنا والمبدعون والمثقفون الى تحديد علاقتهم بالتراث لانه الرحم الذي تنبثق منه الولادة الجديدة.
ان تمثل التراث امر ضروري للابداع وهكذا كان، ان موروثنا العربي الحي الذي ننتمي اليه ونتنفس ابجديته ولغته ما يزال فاعلا فينا الا ان هذا الموروث بدوره طاعن في الزمان والحضارة ويشغل مساحات جغرافية متسعة تتجاوز القارات كما تتجاوز العصور.
والأمر واضح بالنسبة الى لغتنا الحية التي ورثت لغات كثيرة شاركتها الولادة من رحم واحدة وورثت عنها ابعادها الحضارية من الماء الى الماء على تعدد النكهة والنبض وهي ما تزال تحمل هذا الإرث.
ان ميراثنا الحضاري يضرب جذوره في الماضي السحيق ويحملنا مسؤولية خمسة الاف سنة من الحضارة التي شاركت في ابداعها المنطقة العربية لكن ثقافتنا هي مرآة الوعي وراداره المبكر ولاغبار على انتمائنا الى حضارة مخصوصة ووحدة هويتها لكن تراثنا ليس هو اللغة فحسب انه ايضا الوراثة للشرق القديم بكل تنوعه وتعدده والانتماء الى الارض والتاريخ والمصير الواحد هو التراث الخفي الذي يتحكم بفكرنا وبلغتنا الظاهرة.
ولم يكن الاحياء الحضاري الذي مارسه الرواد غير عودة الى الفعل والانسان والحرية بدءاً بالتراث ومروراً بالانبعاث ووصولاً الى الابداع والتجاوز.
والاحياء العربي نادى به جمال الدين الافغاني والشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد بن عبد الوهاب منذ مطالع القرن التاسع عشر الى بدايات القرن العشرين كان معنياً بهذا الاحياء الحضاري.
وهم جميعاً: وجهوا الاستبداد السياسي الذي يعطل الحرية ويعطل العقل ويعطل الانسان بل واجهوا بالدرجة الاولى الاستبداد الخرافي الذي يمارسه التخلف فيفسر النص لا في ضوء العقل والانسان والحضارة بل في ضوء منافع ومصالح جزئية مغلقة معتمداً على الهامش والذيل وذيل الذيل ليغيب النبض المتوهج في الأصول والمتون.
فالعودة الى الينابيع ان هي في الجوهر الا عودة الى هذا النبض وايقاظ للعقل في الموروث الاسلامي العربي وتحريك الانسان في مسار التاريخ في الزمان والمكان في اطار حرية مسؤولة تضمن التوازن والتحرك في آن.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved