Sunday 4th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 20 ربيع الاول


سولجنتسين في (العجلة الحمراء)
المعاناة ,, مجد الماضي وشاهدة ضريح الحاضر
رضا الظاهر

يعرف الكاتب الروسي الكسندر سولجنتسين، الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1970، على نطاق عالمي، شاهداً على رعب معسكرات الاعتقال الستالينية, وقد صدر مؤخرا، الجزء الثاني من روايته (العجلة الحمراء)، التي اعتبرها عدد من نقاد ادبه اخفاقا.
ان فكرة كون سولجنتسين الشخصية الاكثر مأساوية في روسيا القرن العشرين اصبحت فكرة مبتذلة لكثرة تكرارها.
ان انسانا بنى مجده من خلال المعاناة، وجعلته شجاعته وخبرته الفريدة بوصلة اخلاقية للبلاد قد جرى استهلاكه من خلال المعاناة ذاتها, ففي عمر الحادية والثمانين اصبح هذا الروائي قوقعة حية لبراعته الفنية والسياسية السابقة.
وبالنسبة لكاتب ذي مواهب حقيقية يعتبر هذا المصير مأساويا حقا.
فمنذ نشر (يوم في حياة ايفان دنيسوفيتش) أوائل الستينات، وبعد (أرخبيل الغولات) التي ظهرت في الغرب بعد عقد من ذلك ، برز سولجنتسين شخصية هامة في الثقافة الروسية في القرن العشرين, وجعل منعه من تسلم جائزة نوبل شخصيا، وطرده من وطنه عام 1974، جعلا منه شخصية ذات اهمية عالمية، مع انه من الصعب اغفال العوامل السياسية، في ظروف الحرب الباردة، التي اسهمت في شهرته، وتوسيع دائرة الكتابة عنه.
وبعد سنتين قضاهما في اوروبا، ذهب الى الولايات المتحدة، حيث كانت الثلوج واشجار البتولا في فيرمونت تذكر الكاتب المنفي بوطنه روسيا, وكانت رغبة الكاتب في الحفاظ على روسيته كبيرة، حتى انه احاط نفسه بجدار، ورفض التعامل مع امريكا والعالم في آن واحد، وكان خائفا من افساد وغربنة روحه الروسية, وقد انتقم مصيره من ازدرائه هذا للعالم الخارجي, ف (العجلة الحمراء)، وهي رواية باربعة اجزاء، قضى سولجنتسين معظم حياته في المنفى في كتابتها، هي، على نحو اثار حزن نقاده، ليست اكثر من ضريح مهووس دفنت فيه موهبته القيمة التي استحقت جائزة نوبل, كانت موهبة سولجنتسين تتجلى في كونه شاهدا نقل ما رآه، وكانت افضل اعماله بسيرته الذاتية, ف (الدائرة الأولى)، التي جرى تداولها سرا عام 1966، انبثقت عن تجربة الكاتب كمتخصص في الرياضيات في مجموعة تعمل في معهد للبحث العلمي للبوليس السري خلال فترة سجنه الاولى بعد الحرب، واصبح معسكر اعتقال السجناء السياسيين الذي وجد نفسه فيه، بعد سنوات ، مكانا بالنسبة ل (يوم في حياة ايفان دنيسوفيتش), وفي المنفى الداخلي في طشقند اصيب بسرطان المعدة، واستطاع البقاء على قيد الحياة من خلال المعالجة بالاشعاع، فاستخدم المستشفى كمكان ل (جناح السرطان) - 1968, وفي عام 1973 ظهرت (أرخبيل الغولاك)، التي عدها النقاد افضل اعماله من الناحية الفنية، وقال عنها سولجنتسين نفسه في هذا الكتاب لا توجد شخصيات غير حقيقية ولا احداث غير حقيقية ، لكنها كانت رواية ناجحة فنيا.
وفي بداية السبعينات، عندما كان يجري تداول (أرخبيل الغولاك)، غير المنشورة، سراً، في موسكو، قرأها الرئيس السوفيتي المتقاعد نيكيتا خروشوف، الذي كان قد دعم، بنشاط، الطبعة الاولى من (ايفان دنيسوفيتش) عندما كان ما يزال في السلطة, وشعر خروشوف بالسعادة وهو يرى صحة معركته السياسية ضد الستالينية تتأكد من خلال الفن, غير ان زوجته نينا بتروفنا رفضت ان تنهي الكتاب بعد ان القت نظرة على بعض فصوله, وكان مبررها انه لا يمكن ان يكون حقيقيا، والا لما كان بامكاننا العيش الآن ,ورغم معرفتها بالكثير من افعال ستالين، لم تستطع ان تقبل الرواية الفنية لتلك الافعال.
غير ان كون سولجنتسين شاهدا لم يكن كافيا بالنسبة له، فقد كان واقعا تحت اغراء ان يكون معلما ملهما, وكان في يده موضوع اكثر اهمية من حياته الخاصة هو موضوع روسيا, وفي عام 1971 شهد العالم ظهور (اغسطس 1914) الجزء الاول من (العجلة الحمراء) وهي قصة حول الكيفية التي اوصلت بها عجلة التاريخ روسيا الى الثورة البلشفية.
وعلى الرغم من انه لم يكن من السهل متابعة الرواية، فقد جرى تعويض اسلوبها المتعرج بتقديم تفسير دراماتيكي جديد للتاريخ الروسي, وبينما عزل سولجنتسين نفسه في فيرمونت بدأ يكشف عن محن وطنه التاريخية والروائية لكن البيئة الاصطناعية لجبال نيو انجلاند انتجت روسيا ما قبل الثورة بطريقة اصطناعية مماثلة.
وعندما نشرت (العجلة الحمراء) في روسيا في التسعينات اشار احد الكتاب الروس قائلا: في عصرنا لا يمكن للمرء ان يعيش ويكتب في فراغ, ربما يكون عظيما لكن لزمن اخر وجيل اخر , وقبل كل شيء يصعب تتبع مسارات الرواية، ذلك ان كثرة الشخصيات وحياتها المنعزلة تبدو عشوائية، والرابطة الوحيدة هي التاريخ الروسي في عامي 191 أو 1916.
وبدلا من نسج الاحداث في عقدة فنية واحدة، كما هو الحال في النموذج الذي قدمه تولتوي، تبدو الاحداث طبقات متوازية غير مترابطة , وفي الرواية توجد افكار لا اهمية لها من ناحية الواقع التاريخي وويرى نقاد سولجنتسين ان رغبته في الحفاظ على اللغة الروسية السليمة اثرت على كتابته سلبا بحيث بدا اسلوبها صعبا على القراءة, ويبدو سولجنتسين الذي صدم العالم باحتمال صدق (ايفان دنيسوفيتش)، وواقعية (أرخبيل الغولاك)، محلقا في (العجلة الحمراء) فوق المكان وخارج الزمان.
وفي الكثير من الذكريات عن حياة سولجنتسين والاحاديث عنه يذكر الناس الذين يعرفونه شخصيا انه انسان يثق بالخبرة التي تمنحها الكتب اكثر من تلك التي تمنحها الحياة, وربما كان طبيعيا، بعد سنوات الرعب التي عاشها في معسكرات الاعتقال، ان يبتعد عن متاعب الحياة, غير ان العمل الروائي يجسد، قبل كل شيء ، الصدام بين المؤلف والحياة، ولهذا لا يستطيع الكاتب ان يغلق نفسه عن العالم,عندما عاد سولجنتسين الى روسيا عام 1914 بعد عشرين سنة قضاها في المنفى، جرى الترحيب به واعتبر امل الشعب عموما، وكذلك النظام الجديد الذي جاء في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي , وكان يتوقع منه ان يمارس التوجيه، والتفسير ، والتنوير, والتقى به يلتسين وغورباتشوف، الديمقراطيون والشيوعيون، القوميون والاشتراكيون ليتعلموا من حكمة الرجل العظيم ونشرت كل مقالاته ودراساته ، ومنح كل ما كان يتمناه، وطلب اليه ان يقدم برنامجا في التلفزيون.
غير ان خيبة امل رهيبة اعقبت ذلك، فقد بدأ الناس يغيرون قناة التلفزيون، ما ان يظهر سولجنتسين على الشاشة في برامجه الاسبوعية وهو يلقي المواعظ باسلوب عفا عليه الزمن, وبعد حوالي سنة الغي هذا البرنامج التلفزيوني الفاشل, واتهم سولجنتسين الهيئات الاعلامية باللاوطنية والتآمر، غير ان الحقيقة، كما يؤكد نقاده، هي ان ظهوره العلني كان مصدر ضجر وسأم.
مرة اخرى تتجلى التراجيديا, فبدلا من ان تصبح العجلة الحمراء تذكارا لمجد سولجنتسين الادبي ، تصبح شاهدة ضريح كئيبة لموهبته التي دفنت نفسها، بعد ان كانت متألقة.
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved