Sunday 4th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 20 ربيع الاول


جولة في معرض الإبريز
د, مختار الغوث*

نال القرآن الكريم من عناية المسلمين ما لم ينله كتاب، ولا مصدر آخر من مصادر التشريع، ولا مصادر الثقافة العربية الإسلامية.
وبدأت هذه العناية من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يديم التفكّر فيه، والتدبر له، حتى لقد قال الشافعي - رحمه الله - ان حديثه عليه الصلاة والسلام يستنبط كله من القرآن، وكان يعلّمه أصحابه بأناة شديدة، تلبُّث طويل، يقفهم عند كل عشر آيات منه حتى يفقهوها ويعملوا بها.
وهذا الدرس والتدبر امتثال لأمر الله (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته)، (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
بيد أن لغته لم تكن تنال من ذلك الدرس والتدبر نصيبا، لأن عرب ذلك الزمان لم يهمهم من أمر اللغة ما أهم من تلاهم من العرب الذين فقدوا السليقة أو ضعفت في مجتمعهم، فالتمسوها في كلام العرب الأولين، فكان من دراستها والكلف بها ما كان على أنه يؤثر عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - بداية لدراسة لغة القرآن، تقتصر على تفسير مفرداته، وتتبعها في اشعار العرب، للاستعانة بها على معرفة معاني القرآن الكريم,ثم شرع العلماء في التأليف في لغة القرآن الكريم، مفردات، وأساليب، وبيانا، وإعجازا، وإعرابا، وقراءات، منذ بدأت النهضة التأليفية عند العرب، في القرن الثاني الهجري وتمادوا في التأليف الى يومنا هذا.
وكان التأليف في لغة القرآن الكريم في بداياته تختلط فيه موضوعات شتى، ثم استقل بعضها عن بعض، وكان مما استقل منها الإعراب، فغدا موضوعا قائما بذاته، تؤلف فيه الكتب, وقد استهوى طائفة كبيرة من اللغويين والمفسرين القدامى ولا سيما القراءات التي اتبعت لغات قليلة الاستعمال، او شاذة في القياس، أو غريبة الوجه، والآيات المعضلة الاعراب.
واتجهت عناية اللغويين في العصرالحديث أكثر شيء - الى دراسة لهجات القرآن الكريم بقراءاته، وأصواته، ولم ينل منهم الإعراب عناية كبيرة، الا فئة قليلة، آخرها الاستاذ الدكتور عبدالكريم الاسعد الذي اصدرت له دار المعراج الدولية هذا العام آخر كتب اعاريب القرآن الكريم بمقدمة ضافية لمعالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء وقد سمّاه (معرض الإبريز من الكلام الوجيز عن القرآن العزيز) وهو كتاب ضخم يقع في خمسة مجلدات كبيرة، ويختلف عن أكثر كتب الإعراب القديمة والحديثة، بما اشتمل عليه من موضوعات لم يشتمل عليها مجتمعة كتاب إعراب، من تفسير مجمل مختصر للآية المعربة، وبيان لمعاني مفرداتها الغريبة، واشتقاقاتها، وبنائها الصرفي، وما اعتراها من الإعلال والابدال، ووزنها، وما عرض لها من التغير الذي أخرجها عن أصلها، وإعراب الجمل إعرابا دقيقا مفصلا لا يغادر كلمة، مع التعرض لأوجه الإعراب المحتملة في كل جملة، وما يستتبع كل وجه من المعاني وعرض للقراءات كثيرا، ووجّهها، ونسبها الى أصحابها، وتخيّر منها أشهرها، وما يشكل منها خاصة، فيحتاج الى بيان.
وأطال الوقوف عند الآيات المشكلة الاعراب، كقوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون,,,)، في سورة المائدة وقوله: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلَكم الى الكعبين) بسورة المائدة، وقوله: (وإن كلاً لما ليوفينهم ربك أعمالهم)، بسورة هود عليه السلام,, فقلّبها بقراءاتها ظهرا لبطن، وحلّلها تحليلا دقيقا، وبسط القول في الخلاف فيها، وأبان الرأي الذي يراه في إعرابها وانتقد بعض الآراء البعيدة، والآراء غير السديدة, كما عني بإيراد بعض النكت البلاغية في بعض الآيات، وعلّل اختيار القرآن الكريم أسلوبا على آخر كان يمكن ان يؤدي معناه، في الظاهر، فبيّن سرّ الجمال في الأسلوب المختار، ومزاياه التعبيرية التي لا يبلغها التعبير المتروك.
وأورد بعض الخلاف اللهجي في الأساليب والمفردات والإعراب,واعتنى كثيرا بالربط بين الإعراب والمعاني، وتولى تبيين ذلك بأمثلة صناعية تقرّب المعاني الى الأذهان، وتعين على ايضاح الإعراب المقصود.
والكتاب خلاصة لجمع من أعاريب القرآن القديمة والحديثة، وحجج القراءات وتوجيهها، سردها المؤلف في مقدمة الكتاب، واضاف إليها ما ليس فيها من تفسير وصرف وبلاغة، واختصرها بحذف الشواهد الشعرية، النثرية، والأوجه اللغوية، وبتجنب التوسع في الأمور غير الضرورية، وحذف ما ليس له صلة مباشرة بالإعراب، فكان كتابا في الإعراب لم يسبق اليه، من حيث المادة المجموعة، ومن حيث بسط المعاني بإيجاز قبل الخوض في الإعراب، ليتسنى للقارئ فهم الإعراب فهما دقيقا، ومن حيث يسر العرض ووضوحه، وتمثّل الأوجه والخلاف، والقدرة على عرضها في لفظ وجيز مع استيعاب لها، وهو في هذا يشبه كتاب العكبري، (إملاء ما منّ به الرحمن)، مع ما بينهما من الاختلاف فيما عدا ذلك.
وقد تأتى للمؤلف هذا الاستيعاب والشمول والتنوع مع الايجاز من ولعه الشديد بالنحو وتفتيق مسائله، وهو أمر يعرفه منه كل من درس عليه النحو، فقد كانت تعتريه في ساعة الدرس نشوة شديدة، فيصول ويجول ويقلّب الكلام على كل وجه، ويورد الأقوال مع التحليل والتعليل والاعتراض والمغامز التي يمكن ان تغمز بها، حتى إذا فرغ من درسه هدأ كما يهدأ الشاعر حين يفرغ من آخر بيت يعبّر عن احتراقه وتأجج مشاعره، واخذ يتصفّح وجوه الطلاب ليعرف مبلغ فهمهم لما كان يقول,وأعانه بعد ذلك كله طول معاشرة النحو، مؤلفا ومعلما، فقد امضى في التعليم نحوا من أربعين عاما، وألّف في اللغة وعلومها بضعة عشر كتابا.
وقد هيأت له خبرته التعليمية ما اتسم به الكتاب من وضوح العبارة، والاقتدار على الإفصاح عما يريد، وحسن الإيجاز والتلخيص، وهي مزايا يخالف فيها بعض كتب الاعاريب القديمة والحديثة.
ومنهج الكتاب في عرض المادة القرآنية وإعرابها البدء بسرد الآية أو الآيات المعربة، ثم تفسيرها، ثم إعرابها وتحليلها تحليلا صرفيا وبلاغيا, وليس الإعراب مقتصرا على تسمية مواقع الكلم من الإعراب، كما كان يفعل كثير من المعربين، حتى في الآيات المفصلة الإعراب، بل كان يعرب الجملة كلمة كلمة، ويقدّر المحذوف منها، ويعيده إليها، ويذكرها مقترنة به، ويفسّر معناها إن كان فيه غموض يحول دون معرفة الوجه الإعرابي، كقوله في إعراب الآية: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا): الذين: مبتدأ أول، وجملة (يتربصن): خبر لمبتدأ ثان محذوف، والتقدير: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا (أي زوجات)، أزواجهم (أي زوجاتهم) يتربصن، فأزواجهم: مبتدأ ثان محذوف وجملة يتربصن: خبر لهذا المبتدأ، والجملة في موضع رفع خبر المبتدأ الأول).
ولو لا هذا التفسير الذي صاحب الإعراب واعترضه لعسر على القارئ فهمه، وهو عمل لم تكن كتب الاعراب القديمة تحفل به، لأنها كانت تؤلَّف للعلماء والخواص من أهل اللغة، وقد أراد المؤلف كتابه لدارسي العربية جميعا.
وليس لأحد ان يتوقع من كتاب يؤلف اليوم في إعراب القرآن الكريم جديدا من القول لم يسبق اليه، فكثير من اساليب القرآن ليس في حاجة الى إعراب، لوضوحه لمن شدا من علم النحو شيئا، وما اشكل منه قد تعاوره النحاة والمفسرون منذ اشتغلوا بالتأليف، حتى لم يدعوا فيه غرضا لرام.
وقصارى ما يتوقع من كتاب في إعراب القرآن اليوم ان يحسن العرض، ويجيد الفهم، ويستوعب الأوجه، ويلم بالأقوال، ويحسن الموازنة والاختيار، ويبين عما غمض من كلام الأولين، ويفصّل ما اجملوا، ليقرّبه الى طالب العربية اليوم، الذي لم يعد في وسعه استيعاب بعض كلام السلف، وهذا ما صنعه مؤلف (معرض الإبريز).
بيد ان الكتاب - مع كل ما تقدم - لم يسلم من هنات، قلّما سلم منها كتاب، وقد يكون مأتى بعضها من محض السهو، كالاقتصار - في نسبة القراءة على بعض من قرأ بها، كقوله إن (وأرجلكم الى الكعبين) بالنصب قراءة نافع وابن عامر والكسائي، وباقي السبعة يقرأون بالجر والصواب ان حفصا عن عاصم يقرأ أيضا بالفتح وقوله في مواضع كثيرة من الكتاب إن القراءة بكذا هي المرسومة في المصحف ، ومقتضى العبارة عند علماء القراءات ان ما ليس مرسوما في المصحف شاذ وقد صرح بذلك مرات، كقوله إن (السراط) و(الزراط) بالإشمام في (الصراط) قراءتان شاذتان، لمخالفتهما ما في المصحف (ج1/7) وكذلك قراءة حمزة (عليهُم) بضم الهاء, وفي الحق ان القراءات الثلاث سبعية متواترة، وليست بشاذة، ومخالفة القراءة المتواترة لما هو مرسوم في المصحف المكتوب على رواية حفص او غيره من القراء لا تعني الشذوذ، وانما تعد شاذة اذا خالفت المصحف الإمام الذي اخذ منه القراء جميعا، والكسرة والضمة والفتحة والسكون عامة لا تخالف رسم المصحف، لأن المصاحف الأولى في عهد عثمان لم تكن تشكل، وأوّل من وضع الشكل هو أبو الأسود الدؤلي، كما هو معروف، فالرسم يحتملها, ومنها تكرار أشياء كان الأولى الاكتفاء بذكرها مرة واحدة، لأنها بمنزلة القاعدة التي يغني تقريرها مرة عن تردادها، لأنها تستقرّ في الأذهان وتطرد كإعراب اسلوب المدح والذم المصدّرين بنعم وبئس، والقول إن النفي والاثبات إذا اجتمعا تساقطا، فصار الكلام مثبتا، وتكرار بيت ابن مالك:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم
جواب ما أخّرت فهو ملتزم
وذكر بعض المسائل الصرفية التي للخيال فيها نصيب، وليست لها فائدة عملية، كالأصل الذي آلت منه (خطايا) الى صورتها هذه، وبعض البدهيات الصرفية التي لا ينبغي ان يجهلها قارئ هذا الكتاب، بل قارئ ما هو دونه من كتب النحو، كأن حرف العلة إذا تحرّك وانفتح ما قبله قلب ألفا.
ومهما يكن من شيء فقد قدم الاستاذ الدكتور عبدالكريم الأسعد لدارسي العربية دروسا مفيدة في التطبيق النحوي والصرفي، تقيمهم - بما نهجت - على جادة الطريق، وتريهم طريقة تفتيق المسائل وكيفية النظر في إعراب النصوص وتكفيهم مؤونة التفتيش عن إعراب القرآن الكريم وما يشكل منه، بما جمعت في هذا الكتاب من أقوال المعربين.
وإذا كان ابن هشام يرى انه وضع للإعراب قواعد في (مغني اللبيب) تغنيه عن اعراب القرآن إعرابا مفصلا، فإن الاستاذ الدكتور عبدالكريم الأسعد بث في كتابه هذا قواعد اعراب الجمل والاساليب العربية، ويستطيع قارئ كتابه هذا ان يستخلصها بيسر، فيقيس عليها، وهي قواعد تطبيقية يستنتجها القارئ من الدراسة التطبيقية، وليست كالقواعد التي تقرر سلفا، وتوضح بأمثلة، ثم يترك امر تطبيقها للطالب، وقد يعجز.
ولقد عرفنا جدوى هذه الطريقة منذ درسنا النحو على الاستاذ الدكتور عبدالكريم فأغنتنا عن حفظ متون النحو، واستظهار القواعد المجردة التي قد يستظهرها من لا يستوعبها ولا يحسن تطبيقها في الدراسة النحوية.
*قسم اللغة العربية - كلية المعلمين - المدينة المنورة

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved