Sunday 4th July, 1999جريدة الجزيرة 1420 ,الأحد 20 ربيع الاول


غبار العتبة

لسنوات، لم تجتز قدمها عتبة الباب، ولم يتلصص ضوء الشارع داخلا، في عمق منزلها المحشور عنوة بين منازل الحارة، فمنذ ان صارت وحيدة لم تهو من امام عينيها الكابيتين ، ولو لثوان، وصيته الاخيرة، فآثرت الا تمس نعلها البلاستيكية الخضراء تراب الشارع، لئلا يتململ حانقا في تربته الى يوم الدين.
رغم الغبار الذي يتكاثف على عتبة الباب المهجورة، الا ان اعين الخلق رددت بأن ثمة ملامح حذاء قد فضت الغبار، على ان قلة اشاروا بنظراتهم الحانية، الى انها تتقاطر بغلالتها السوداء ومعطفها الصوفي الطويل، خارجة في الليل المليء بالصراصير وبالصقيع.
لا احد يجزم تماما ان كانت قد خطت بقدمها في الشارع، او ان يحدد شخصا بعينه، كالبائع في الدكان المتأرجح في ناصية الشارع، او النظّاف، او الجار ، الا انهم جميعا توقعوا ان احذية كثيرة ومشاعيب مجلوة، سوف تنهال بقسوة ، على اكداس غبار العتبة، وان انينا خفيضا سيعلو شيئا فشيئا حتى يخمد فجأة، ويعود كالعادة يعلو الغبار هائلا، كانسا بكثافته الخطى والخطايا.
واذ تجلس الحكّاءات، ويفضن في الضحى، لابد ان يذكرن، انها مذ ارتبك نسيج القميص القطني، بغواية صدرها المتماسك، وحتى قبل ان تدخل عزلتها، كانت تحلم بان ترى البحر، وان تدخل فيه، نازعة وحشة الصاري الخاوية، اذ تردد دائما:
اشوف البحر، واموت .
ولان النافذة الخشبية الوحيدة المطلة على الشارع لم تنفتح يوما، ولم ينفذ عبرها ضوء، او دندنة لامرأة وحيدة، مثلا، لم يكن احد يدرك كم تنتقل وحدها كثيرا داخل انحاء المنزل الصغير، ولا كيف تدخل غرفته التي يلتم فيها رجاله، حتى لو تخيل الناس انها تذكر بعضه بمطالعة اشيائه الحميمة، لم يكن احد يظن، لو ظنا، انها في مساء، كذلك المساء البعيد، قد دخلت الغرفة تلك ، على اربع، تتشمم رائحته، جائلة بوجهها على مساند الاسفنج المصطفة على جدران الغرفة ، واذ تشعر بالانهاك والتعب، تسند ظهرها على الاسفنج، رافعة وجهها بعينين مغمضتين نحو السقف ، حالم بالبحر، حتى لتشعر بشيء ما يتحرك خلفها، لم تدركه للوهلة الاولى، لكنه عاد يتململ ببطء، ورغم انها جربت ان تلكزه بمرفقها القاسي، الا انه تسلل هادئا ذاك الحيوان الاسفنجي، طافحا امام عينيها الجميلتين، مخلفا فقاعات ترتفع عاليا، حتى انها لمحت بعض فقاعات مائية تعلو من منخريها الصغيرين، بينما ذراعاها الابيضان يعومان في موجات ثقيلة من الماء، تفتح عينيها في مواجهة الماء المالح، وحيوانات اسفنجية باشكال هلامية تحاصرها، تخفق بذراعيها، وتزداد فقاعات منخريها الصغيرين، وبعدما تتوسط فضاء الغرفة، تتداعى وئيدة حتى تلامس القاع، وتقل الفقاعات الناشئة من غابة وجهها كخيط سري يتسامق عاليا، فقاعات شحيحة، ثلاث فقاعات احداها ضخمة، فقاعتان ، واحدة، ثم لاشيء.
لاشيء ابدا.
فقط بعض غبار لايني ان يهدر كقطيع لاحد له فوق عتبة باب منزلها.
المحيميد

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
تقارير
عزيزتي
الرياضية
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved