Sunday 12th September, 1999 G No. 9845جريدة الجزيرة الأحد 2 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9845


قصة قصيرة
الزمن البعيد
وفاء إبراهيم العمير

علقت في السؤال,.
نفضت عن عيني سهادها,.
واختزنت القلق كقطع الحلوى
ودسسته في جيب الانتظار!
كان طابور الكلمات يصطف في مسار التوجس
الذي حطَّ في دمي من زمن بعيد,.
أخذت تتحسس الجدار الطيني المتهالك بيد مرتجفة، ثبتت اصابعها النحيلة المرتعشة في الجدار الخشن فيما بدت عروق يدها النافرة وكأنها على وشك ان تنزّ من تحت الجلد المتجعد، كانت تسير بخطوات ثقيلة وقد لاصقت الجدار وظهرها ينحني بشدة، أنفاسها تندفع من صدرها بطيئة ومثقلة بالوجع,, تجلس وقد أنهكتها تلك الخطوات البطيئة التي زرعتها في أرض المكان - الى جانب قدر كبير فوقه غطاء قد تعرجت أطرافه وقد اتاح للبخار المتكاثف ان يطلق خيوطه السوداء المتعانقة في ساحة المكان المغبرة، ويلوح فوق وجهها الأسمر المتغضن بتجاعيد كأنها حفر غائرة في ارض طينية عتيقة, رفعت الغطاء واقتربت برأسها وفوقه مسفعها الأسود الشاحب الذي تلتصق أطرافه المهترئة بعض اعواد القش ونتف من الطين، وقد شبكت ببعض اجزائه دبابيس صدئه كانت تعثر عليها اثناء تجوالها الدائم في الحوش الترابي الكبير,, كانت عيناها غائمتين، وسحابة ضبابية من الدخان تنفلت من تحت القدر المتفحم بالسواد وتهجم على سحنتها الترابية الغريبة، تلفها في دوامة من السعال، تفلت الغطاء من يدها، يهوي على الارض الترابية الحمراء، يحدث سقوطه العنيف فوق قطع الحجارة الصغيرة دوياً مزعجاً,, تنحني جانباً,, تلمُّ فمها الفارغ من محتوياته بين راحتيها، تحاول ان تعيد الى صدرها الواهن وحنجرتها الجافة توازنها المعتاد,, جاءها صوت جارتها من فوق الحائط الذي يطلُّ على حوش دارها,, يفغمها بالسؤال ذي النكهة الصباحية الطازجة.
هل تريدين لبناً؟!
ترفع رأسها كأنما ترفع حجراً ثقيلاً فوق كتفيها الواهنين، وسحابة عينيها الغائمة تهطل قطرات خفيفة تتعلق بأطراف اجفانها المتصلبة تبتسم، فتحة صغيرة خالية تنفرج في وجهها، وتحتفي العينان، بينما دائرتان صغيرتان منتفختان راحتا تتشكلان في جانبي الوجه, كان صوتها يعتلي الجدار الطيني القائم امامها، بصعوبة كبيرة حتى وصل الى مسامع الجارة، يختفي الرأس الأسود المطل من فوق الجدار.
من باب الغرفة المعتمة في وسط الحوش، يخرج، تتقدمه عصاه الطويلة الغليظة ، تتحسس الاحجار الصغيرة ، والحصير الاصفر الباهت، الملقى بإهمال عند جدار غرفة نومه المنحدرة في الارض,, اهتزت الفناجين في يدها المرتعشة بينما أمسكت بدلة القهوة في اليد الأخرى، اقتربت منه، جلست بقربه، طاوية رجليها تحت ثوب بني عريض بينما كان طرف المسفع الأسود الطويل يتدلى على صدرها، حدجته من طرف عينها بنظرة خالية من اي معنى غير الشعور الكبير بالالتزام!
وسنوات طويلة من العشرة، تدفقت بوهج الألفة، والشعور بأن كل منهما قد اعتاد وجود الآخر الى جانبه، حتى صار قرب كل منهما من صاحبه نقطة التقاء إلى آخر العمر.
كلمات هامسة دارت بين الاثنين تحت خيمة من الظلال التي انهمرت من فوق الأغصان الكثيفة لشجرة السدرة العجوز المتجذرة عروقها في باطن الأرض, اقبلا على حديث يهمي كما قطرات الندى فوق أوراق الورد المتفتح في ثغر الصباح كانت أصواتهما تتناهى في فضاء المكان ضعيفة ومسترسلة وحنونة ومشبعة بالطمأنينة والخلود الى دفء الاحساس!
طرقات على الباب متتابعة وسريعة، تصبُّ آخر فنجان، تنهض، تضع يديها على الأرض، ترفع نصف جسدها العلوي، وتستند على إحدى ركبتيها تسير مقوسة الظهر حتى وصلت الى الباب كلمات ترحيب عالية تنطلق بأصوات متناقضة في الحيوية والشباب وإناء معبأ باللبن ينتقل من يد إلى يد أخرى، تسحبها إلى الداخل مع تمنع خجل من الجارة، سواليف تفيض عذوبة ونقاء، طافحة بالسعادة والبشر تعبر أمام العجوز المنشغل بفنجان قوته انقطعت الاصوات عندما دخلت الى حوش جانبي منعزل حيث توجد بقرة عظام جسمها ناتئة وعيناها زائغات في الهواء وفي الأرض الطينية المتسخة,, كانت العجوز تشرح وبالكاد تلمح أهداب عينيها الغائرتين تطرف في حماس ممزوج بخوف وقلق بينما الجارة تنصت باهتمام، كان الجوع قد استقر في معدة البقرة ولم تعد قادرة على ان تهب الحليب الرائق ليس غير انفاسها يحوم حوله الذباب بطنينه المزعج رفعت العجوز طرف ثوبها الشاحب حتى أعلى منطقة البطن لتري الجارة المذهولة حفرة عميقة غاصت في بطنها، وقد فسرت ذلك بأن البقرة الجائعة ضربتها بساقها عندما جلست تحت ضرعها الناشف تعتصره بقوة في محاولة لحملها على العطاء الذي لاتملكه!
رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved