Sunday 12th September, 1999 G No. 9845جريدة الجزيرة الأحد 2 ,جمادى الثانية 1420 العدد 9845


المجموعة القصصية (حكايات إيفالونا) لإيزابيل الليندي 2
كتابة القصة مثل إطلاق سهم يحتاج للدقة والحظ الطيب أيضاً
ابراهيم نصر الله

تلعب إيزابيل الليندي في المنطقة الخفية في أرواح البشر، كما يلعب الشعر فعلا، وتذهب بمقدماتها نحو نهايات مغايرة لمنطق هذه المقدمات، وذلك يعود في اعتقادنا الى انها تختبر الحياة، بالقدر الذي تختبر فيه الفن، بل انها حين تمضي لكشف ابعاد النفس الإنسانية تحرص أول ما تحرص ان تذهب نحو أرض طالما زرعت بالمثاليات والنتائج الجاهزة، تعيد حراثتها وتزرعها بما يليق بها فعلا: بالفضاء الملائم كي تتفتح تحته المشاعر الإنسانية بلا قيود.
فكأن الإنسان في قصصها يكتشف نفسه، وهي تمسك بيده وتقوده الى مناطقه الوعرة التي في داخله، ولم يسبق له ان ملك جرأة الوصول الى قرار عبورها او تأملها من خارج حدوده حدودها.
في قصة (إذا ما لمست قلبي) يحبس آماديو الفتاة التي اعجب بها قبل زواجه من أخرى بقليل، سبعة وأربعين عاما في قبو مظلم، وحين تنكشف جريمته ويحبس، نجدها تذهب حاملة الطعام له قائلة بنبرة اعتذارية لبواب السجن (لم يكن يتركني أجوع تقريبا)!! وكذلك الأمر في قصة زوجة القاضي وقصة انتقام حيث تتحول سنوات الحقد التي امضتها الشخوص في انتظار لحظة الانتقام الى حب ما ان يلتقي الخصمان, بعكس قصة (نزيل المعلمة) الذي يقتل ابنها بسبب محاولته الوصول الى ثمرة مانجا، وكيف توقع الاقدار قاتله بعد عشرات السنوات في يديها، حين تتعطل سيارته ويضطر للنوم ليلة في البنسيون الذي انشأته بعد ان ربت مجموعة من الأجيال كمعلمة، وكيف تقتص منه وتتواطأ معها القرية بأكملها، بحيث يتم دفنه في الموقع نفسه الذي سقط ابنها صريعا فيه.
في قصتها (كلمتان) تسرد إيزابيل حكاية بيليسا التي تمتهن بيع الكلمات: بخمسة سنتافو تقدم أشعارا مرتجلة، وبسبعة تحسن نوعية الأحلام، وبتسعة تكتب رسائل للمحبين، وبإثني عشر تعلم شتائم محدثة لأعداء لدودين، ومن يشتري منها بخمسين سنتافو تهمس في أذنه بهدية هي كلمة سرية لها قدرة على إبعاد الكآبة، ولم تكن تقول الكلمة نفسها للجميع بالطبع, وهي تدرك أهمية الصدق: لقد باعت بضاعتها لسنوات دون ان يخطر ببالها انه يمكن للكلمات ان تُكتب أيضا، وحين عرفت ذلك أدركت ان الكتابة تقدم آفاقا غير محدودة لتجارتها، ولهذا دفعت مئتي بيزو لتتعلم القراءة، واشترت معجما، قرأته كله، من الألف الى الياء، ثم ألقت به الى الزبالة، لأنها لم تكن تريد الاحتيال على الناس ببيعهم كلمات معلبة!! (درس مهم لكل من يكتب).
وفي (طفلة خبيثة) ترصد حكاية صبية صغيرة تقع في غرام مغن شعبي يلقب بالعندليب، وتتابع رحلة التبدل الطويلة التي تقطعها بين صباها المبكر وإحساسها بعندليبها، ونسيانها ذلك كله في وقت يرتبك فيه الجميع بعد ان تعود منهية دراستها، لأنهم ما زالوا تحت وطأة الحس بعار ما حدث، في حين انها نسيت تماما الأمر (لقد اصبحت الطفولة بالنسبة إليها بعيدة جدا، ولم تكن تحتفظ بأي ذكرى من ذلك الشاب النائي).
في قصصها تولد طفلة وتموت أمها وما يلبث الأب ان يقضي حزنا، يربي الطفلة عمها الذي يغدو وصيا على أملاكها، وتكبر الطفلة ويعمل العم ما استطاع على ان تتزوج ابنه وتتزوجه فعلا، وتنجب ولكنها تحس دائما وكما رأت في أحلامها أن من كان يكتب الرسائل لها اثناء دراستها ليس ابن عمها بل شخص آخر تراه في الحلم قبيحا ومشوها ووجهه محفور بسبب إصابته ذات يوم بالجدري، وأعرج ونصف أصلع, تظل هذه الصورة هي نفسها، ولا تصدق أبدا ان زوجها يستطيع كتابة هذه الرسائل حتى بعد ان يموت، وذات يوم تذهب لمدرسة ابنها التي تعلم من قبل فيها زوجها، لترى ان مدرس الابن هو نفسه الذي درَّس الزوج وبأنه الرجل القبيح الذي كانت تراه في الحلم, وحين تصارحه يقول لها:
ايمكنك أن تسامحيني؟
فترد وهي تناوله العكازين: الأمر يعتمد عليك.
فلبس المعلم سترته ونهض، ثم خرجا معا الى الباحة الصاخبة، حيث لم تكن الشمس قد غابت تماما!!
ولعل ما يلفت الانتباه كثيرا في لغة إيزابيل الليندي في مجموعتها هذه وفي رواياتها ايضا، تلك اللغة المتأملة غير العادية حيث تقول: ان الكلمات كالعصافير تمضي طليقة دون نظام ولا وعي، وبإمكان ايا كان بقليل من السحر ان يحبسها ويتاجر بها, ثم تلك الأبعاد الشعرية والفلسفية في اللغة: حيث على المعلمة ان تمضي يومين كي تستطيع تنظيف الغرفة من رائحة الرعب، في (نزيل المعلمة)، وفي (استير لوثيرو) يهيأ للناس ان الدكتور يستطيع ان يتكلم مع الكواكب, وفي (ماريا المجنونة) كانت ماريا تؤمن بالحب، وقد جعل ذلك منها أسطورة حية، و,, كانت تبدو وكأنها بمنجى من عذابات الأمل، وفي (طريق نحو الشمال) صعدا ونزلا الجبال بين عظاءات جامدة وأشجار نخيل مثقلة، وعبرا مزارع البن متفادين مراقبي العمال والحراذين والحيات، وسارا تحت أوراق التبغ وسط ذباب فسفوري وفراشات كوكبية, وفي (واليماي) يقول الهندي الأحمر الأسير: لقد لاحظت ان اؤلئك الناس يتكلمون بمنتهى الخفة، دون ان يأخذوا في الاعتبار ان التكلم هو الكينونة ايضا، لقد ترعرعت مع اخوتي تحت الأشجار دون رؤية الشمس مطلقا، في بعض الأحيان كانت تسقط شجرة جريحة وتبقى هنالك فجوة في القبة الغابية الكثيفة، وعندئذ كنا نرى عين السماء الزرقا، لقد حكى لي ابواي الحكايات، وغنيا لي الأغنيات وعلماني ما يتعلمه الرجال,, وهكذا اصبحت حرا، فنحن ابناء القمر لا نستطيع ان نعيش دون حرية, عندما يحبسوننا بين جدران او وراء قضبان فإننا ننفجر نحو الداخل، فنفقد الرؤية والسمع وبعد ايام قليلة تخرج روحنا من عظام الصدر وتغادرنا,, ولهذا لم نكن نصنع جدرانا لبيوتنا، وإنما نصانع سقوفا فقط لتمنع الريح وتحرف المطر لأننا نحب سماع أحلام النساء والأطفال والإحساس بأنفاس القرود والكلاب.
ان البنية العامة لحكايات ايفالونا تنتمي في الحقيقة الى بنية الحكاية الشعبية بشكل عام، أكثر مما تنتمي لبنية القصة القصيرة، ففي الحكاية الشعبية نرى الملامح كلها التي تتميز بها قصص إيزابيل الليندي، ونلمس ذلك الانتقال العجيب بين الأزمنة والأمكنة، بين الطفولة والشيخوخة، بين الواقعي والسحري, رغم انها تقول في سيرتها حول هذه المجموعة: لقد كانت تلك القصص مرحلة من بُعد آخر، فقد تلقيت كل قصة منها وهي مكتملة تماما من الجملة الأولى وحتى الأخيرة مثلما أتلقى تفاحة، ومثلما تلقيت من قبل قصة (كلمتان) اثناء اختناق في حركة السير في كاركاس.
لكن قول إيزابيل على ما فيه من جمال، ليس فيه الكثير من الحقيقة، إذ لا يمكن ان يكون المبدع في النهاية جهاز استقبال لموجات صادرة من أماكن بعيدة، وإن زُين له ذلك وتخيله، لأنه لا يمكن ان يكون مجرد صفحة بيضاء، أو مادة خام، فالكتابة تبدأ وتنتهي، في وعبر مصفاة ذات واعية جماليا وإنسانيا، تزن الأمور بميزان الروح والوعي معا، ولذا من السهل ان تذيب وعيها ورؤياها الإنسانية وهي تعبر عن حيوات أخرى بسلاسة لا يستطيعها جميع الناس.
في حوار معها تقول الليندي: حين سكنت بيروت مع أمي وزوجها، كنت اقضي الساعات مختفية في خزانة أقرأ سراً (ألف ليلة وليلة)، ولقد اكتشفت ان كل شيء يمكن ان يحدث، إذ يمكن للبساط ان يطير وان يخرج الجني من القنينة ربما كان في قولها هذا المرجع لتشكل الذات المبدعة لديها، التي تكونت من قراءاتها وخبراتها وحساسيتها الخاصة عبر سنوات وسنوات قبل ان تصل الى لحظة إمساك القلم للكتابة به.
***
بقي ان نقول لقد سجلت كتب إيزابيل الليندي أرقاما مذهلة على مستوى التوزيع، إذ تجاوزت حتى الآن عشرين مليون نسخة، وفي العالم العربي شكلت حضورا لافتا، إذ ترجمت أعمالها كلها، وكان الفضل في ذلك يعود لصالح علماني الذي قدم أعمالها بلغة صافية، اندرجت داخل كيان اللغة العربية بيسر مبدع، كما لو ان الكتب قد ألفت أصلا بالعربية.

رجوعأعلى الصفحة
أسعار الاسهم والعملات
الاولــــى
محليـــات
مقالات
المجتمع
الفنيـــة
الثقافية
الاقتصـــادية
منوعــات
عزيزتي
الرياضية
تحقيقات
مدارات شعبية
العالم اليوم
الاخيــرة
الكاريكاتير


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث][الجزيرة]

أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved