أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 8th January,2002 العدد:10694الطبعةالاولـي الثلاثاء 24 ,شوال 1422

مقـالات

التربية في بؤرة الصراع
د. عبدالرحمن الطريري
مسلمات كثيرة لا بد من الإشارة إليها وتأكيدها بشأن التربية وأهميتها بالنسبة للفرد والمجتمع على حد سواء، فالفرد أيّاً كان موقعه ومستواه الاجتماعي والاقتصادي وفي أي بقعة من الأرض ولد وعاش هو نتاج تربية البيئة التي نشأ وترعرع فيها، حيث يتشرب من خلال هذه البيئة القيم والأخلاق والاتجاهات والميول والرغبات وطريقة التفكير والحصيلة المعرفية والثقافية. والبيئة بمفهومها العام تشمل المنزل والشارع والمدرسة ومكان العمل والمجتمع العام، وكل هذه مصادر للتأثير على الفرد الذي يتلقى من هذه المصادر ما يوجد فيها من قيم ومبادئ ومعرفة واتجاهات وعقائد بغض النظر عن نوع ومستوى وصحة وخطأ هذه القيم أو المعارف أو المبادئ والاتجاهات، كما أن الفرد يتفاعل مع هذه المصادر يؤثر فيها تارة ومتأثراً بها تارة أخرى.
فلاسفة التربية على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم ودولهم يرون علاقة وثيقة بين التربية كمجموعة عمليات تستهدف صياغة الفرد وإعداده للحياة وبين الأسس الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة والمؤثرة على قنوات التربية فمهما كانت هذه القنوات سواء تمت التربية في المدرسة أو المسجد كما في العالم الإسلامي أو الكنيسة والمعبد كما في العوالم الأخرى في هذا الكون، أو من خلال وسائل الأعلام ووساط التأثير الأخرى التي أصبحت في الوقت الراهن ذات تأثير شديد وسحري وسريع.
إن عملية الربط بين التربية كعمليات تستهدف تشكيل وصياغة الفرد وفق صورة وصيغة معينة وبين الأسس الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية لم يأت من فراغ ذلك أن كل مجتمع في هذا الكون له ثوابت تجسدت في وجدانه وعقله وله أهداف يرغب في تحقيقها وله قيم ومبادئ يغار عليها ويسعى لحمايتها والذود عنها بكل ما يملك.
والمتأمل في أحوال الشعوب والمجتمعات في هذا العالم يلمس هشاشة بعض القيم والمبادئ في بعض المجتمعات بل ورداءتها وسخفها ومفارقتها للعقل والمنطق والمصلحة العامة والخاصة ومع ذلك نجد أن هذه المجتمعات تجعل من هذه المبادئ إن صح مجازاً إطلاق مبادئ عليها تجعل منها مرتكزات وثوابت تنطلق منها في تربيتها وتوجهاتها وعلاقاتها مع الآخر وترى فيها ملاذاً تتقي به وتصهر من خلاله شخصية الأفراد المنتمين لذلك المجتمع.
إن مثل هذه البنى المبادئية أو الاعتقادية تتحول إلى محور يستلهم الهمم ويشحن الأفكار ويثير الشعراء والقصاص لينسجوا حولها الكثير من النتاج الفكري والأدبي وليؤصلوا من خلاله هوية المجتمع والأفراد المنتمين له، ويتجسد هذا الإنتاج في نهاية المطاف في مناهج التعليم عبر القصة والقصيدة والدرس الاعتقادي والعمل المسرحي والفيلم السينمائي والتي تسهم كلها في نهاية المطاف في تنشئة الأجيال وجعلهم ضمن مسافات معينة يفكرون ويشعرون من خلالها ومن ثم يكون سلوكهم وفقها.
المتأمل في مجتمعات اليوم يرى التباين بينها في ثوابتها وقيمها وثقافتها العامة وأهدافها في هذه الحياة «وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا» «ولو شاء اللّه لجعل الناس أمة واحدة» ولكن هذا التباين لا يقف حاجزا ومانعاً عن تعارف ا لشعوب وتبادلها لمصالحها مع استمرار الاختلاف والتباين. ولذا فإن نزعة استئصال الآخر وإذابته من خلال التأثير على قنوات التربية لديه وزعزعة ثوابته وتشكيكه تصبح محل جدل ورفض إذا كانت هذه المحاولة لا تستند على منطق ورأي أصلي وإذا اتسمت هذه المحاولات بروح التحدي والهيمنة والعجرفة.
أصبحت مناهج التعليم في الآونة الأخيرة محل اهتمام يتسم بالهجوم الموجه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية نحو العالم الإسلامي وبالذات نحو المملكة العربية السعودية خاصة ما له علاقة بالعلوم الشرعية وبالأخص الجانب العقدي في هذه العلوم التي تؤصل لدى الناشئة علاقاتهم بربهم وهدفهم في هذه الحياة، وقد تحول هذا الهجوم إلى حرب سياسية تستهدف الفصل بين الأمة وثوابتها وقيمها وتجريد مناهج التعليم من هذه القيم والثوابت وكأن آلة الإعلام الأمريكي وهي تشن هذه الحملة نسيت أو تناسبت الأطروحات الفلسفية التي كثيراً ما يرددها فلاسفة التربية ومنهم فلاسفة التربية الأمريكان بالإضافة إلى ما تتضمنه كتب فلسفة التربية من تأكيد على العلاقة الوثيقة بين التربية بكافة فعالياتها ومناشطها وبين الأسس الفلسفية والاقتصادية والاجتماعيّة.
إنه لا يمكن تصور تربية بمعزل عن هذه الأسس والثوابت إذ لا طعم للتربية بدون هذه الأسس ولا توجه واضحا ومن ثم لا أهداف يمكن تحقيقها من خلال الفعاليات التربوية لو لم تكن تستند إلى إطار عقدي أو فلسفي يشكل المسار الذي تهتدي به التربية.
إن التربية الأمريكية التي نجد آثارها ونتائجها الإيجابية والسلبية لم تأت من فراغ ولم تتشكل دونما منهج أو رؤية فلسفية توجهها بل إنها أي التربية الأمريكية تستند وتتكئ بل وتتشرب مبادئها من الأسس الفلسفية للرأسمالية والبراجماتية وإلا فكيف نفسر هذا الفكر الرأسمالي الضخم الذي يتباهى على الآخرين بعظمة إنتاجه وإنجازاته المادية صناعية كانت أو اقتصادية أو ترفيهية أو تقنية.
إن الفكر الرأسمالي لم يولد لدى الفرد الأمريكي بل إنه رضعه من خلال محاضن التربية التي تلقى فيها الفكر الرأسمالي كما أن الحس البراجماتي لم يرثه الفرد من والديه بل إنه اكتسبه من خلال مؤسسات التربية بمناهجها وقنواتها المختلفة.. إن صورة السوبرمان الأمريكي لم تكن لتوجد من خلال عموم الثقافة الأمريكية في الأفلام والقصص والمسرح والدعاية والصورة لو لم يحركها هذا الشعور وهذا الحب للرأسمالية التي أوجدت فكراً رأسمالياً متطرفاً يريد أن يبتلع الآخر ويحتويه ويجرده من قيمه ومبادئه حتى لا يستطيع الحراك أو المقاومة خاصة إذ أدركنا قيمة المبادئ والقيم في تحريك الشعوب للدفاع عن ذاتها وحماية مصالحها.
الأمثلة على العلاقة بين قنوات التربية ومبادئ وقيم المجتمعات أو الأسس الفلسفية والاجتماعية كثيرة فها هي مدارس الكيبوتز فيما يسمى إسرائيل تقوم على تصور فلسفي واضح يستهدف إعادة صياغة الأفراد وجعلهم أقرب للتماثل والتشابه خاصة في المشاعر والأحاسيس والأهداف، ذلك أن مدارس الكيبوتز تحتضن أفراداً جاؤوا من أطراف شتى في هذا العالم وينتمون لآباء تتباين ثقافاتهم بسبب اختلاف مواطنهم الأصلية التي هاجروا منها، ولذا فدور هذه المدارس تقليص الاختلافات وتوحيد الأهداف وغرس حب الأرض والانتماء لهذه الأرض وفق الأسس والثوابت العقدية التي يؤمنون بها حتى وإن كانت خطأ كما نعتقد نحن أصحاب الأرض الحقيقيين. إن تأصيل روح الجماعة وبث مخاوف التهديد الخارجي وبذر بذور الكراهية للآخر «العربي» هي من أهداف هذا النوع من المدارس، ولذا نجد أن مخرجات هذه المدارس على شاكلة شارون وديان ونتنياهو وبيجن ولا غرابة أن نرى سمة التطرف والعداء والكراهية للآخرين وحب سفك الدماء هي السمة البارزة لدى هؤلاء ولدى معظم من يعيشون على أرض فلسطين من اليهود.
سؤال طرحته على نفسي وأنا أتابع الحملة الإعلامية الشرسة على المناهج التعليمية في المملكة هل سأل أرباب الآلة الإعلامية الأمريكية من أين تخرج من ينادون لسحق الآخر والإجهاز عليه ومن يرون فرض الرأسمالية كنظام شمولي لسكان الأرض هل درسوا في مدارس البلدان العربية والإسلامية؟ أم أنهم درسوا في مدارس أمريكية؟!
ومن أين تخرج قادة التطرف ومزاولوه على أرض فلسطين من اليهود هل درسوا في مدارسنا ودرسوا «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم» أم أنهم درسوا وتعلموا أن الآخرين ما هم إلا حمير مسخرة لخدمة اليهود.
إن مناهجنا تعلم الحب والإخاء وتغرس النزعة الإنسانية «لا إكراه في الدين» «لكم دينكم ولي دين» وتحافظ على البيئة «لا تقطعوا أخضر ولا تقطعوا شجرة» بل وتحافظ على الحيوان «في كل كبد رطبة صدقة» فهل يدرك من يشنون هذه الحملات على مناهجنا البون الشاسع بين أسس وثوابت تربيتنا وبين أسس وثوابت تربيتهم التي تنزع لاحتواء الآخر بل والقضاء عليه وإنهائه من هذا الوجود؟!.
عميد كلية التربية /جامعة الملك سعود

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved