Sunday 17th March,200210762العددالأحد 3 ,محرم 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

الحلقة الاولىالحلقة الاولى
عمل «المانع» في «المآخذ» ما عليه من مآخذ!
د. السيد إبراهيم

استقبلت المكتبة العربية مؤخراً كتابا نفيساً من كتب التراث التي لا غنى عنها لطلاب الادب، وخصوصاً ذوي الاهتمام منهم بأدب شاعر العربية الأشهر أحمد بن الحسين، المعروف بالمتنبي، هو كتاب المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب لابن معقل الأزدي المتوفى سنة 644ه.
وابن معقل الأزدي أديب شاعر له ديوان شعر، وكتب أخرى غير كتاب المآخذ. عده مترجموه من علماء أدباء الدهر وشعرائه، ووصفه محبوه بحجة العرب وافتخار أهل الأدب، وله في كتابه المآخذ نظرات تفرد بها واستنباطات لم يسبقه إليها أحد من الشراح على كثرتهم. قال في قول المتنبي:


كن لُجَّةً أيها السماح فقد
آمنه سيفه من الغرق

«.. أي كثيراً مثل لجة البحر، فإن سيفه يؤمنه من الغرق، من قولهم: فلان غرق في العطاء، إذا أكثر منه فأذهب ماله. أي: سيفه يؤمنه من الإقلال، بقتل أعدائه، وأخذ أموالهم. فجعل سيفه بمنزلة السفينة التي تحمله بما يكسبه مؤمنا له من الغرق».(ج2ص105)
وتظهر قيمة كلامه هذا حين نقارنه بقول غيره من الشراح على علو كعبهم ومقامهم، كأبي العلاء إذ يقول في شرح البيت:
«يقول: كن أيها المساح كلجة البحر، فسيف هذا الممدوح يؤمنه من أن يغرق، فادّعى ان سيفه يؤمنه من كل الحوادث وهذا إفراط بين المبالغة وتجاوز الحد».
مما دعا ابن معقل إلى ان يعقب عليه بقوله:
«هذا قول أبي العلاء، وهو شاعر، فما قولك في غيره من شراح الديوان؟! وأبو الطيب لم يدَّع أن سيفه يؤمنه من كل الحوادث. وإنما قال.....
وإشارة ابن معقل هنا إلى شراح الديوان تتضمن ابن جني الذي قال في تفسير البيت:
«أي سيفه له جُنَّةٌ من كل عدو ناطقا كان أو غير ناطق». (ج1ص192)
ولذلك يعقب عليه وقد استفزه التفسير بقوله:«هذا يقال له فيه: دعوه فإنه يهجر»
من الهُجْر وهو الفحش في القول. ثم يقول:
«والمَعْنِيّ وصفه له بكثرة العطاء والشجاعة».
وإنما التفتُّ إلى هذا المثال لأنه يلخص ما لاحظته على ابن معقل من أنه يمثل في نقده ما يسمونه في النقد الحديث (الناقد المُزَوَّد)، أي المزود بالمعرفة بتقاليد القول الأدبي وتراثه السابق، أو قد يسمونه بتسميات أخرى. (راجع ذلك بالتفصيل في كتابي نظرية القارىء). ففي ملحوظ ابن معقل دائما شعر السابقين وفي محفوظه أبدا وفي خاطره وهو يتتبع الشراح شعر المتنبي جميعه. حين يأتي لفهم بيت من أبياته، كثيرا ما تراه يقول:
المعنى كذا لقوله في موضوعٍ آخرَ كذا إلخ.
وهل ثمة ما هو أدل على معرفته وتمكنه من الشعر الذي ينبري له من أن أبا العلاء، وهو الشاعر المتمكن من شعر أبي الطيب الذي عُرِف تعصبه له وحميته دونه حتى جر ذلك عليه الوبال في قصته المعروفة ببغداد في مجلس الشريف المرتضى، أقول: هل أدَلُّ على ذلك من أن أبا العلاء تند عنه أحيانا ملاحظة أمور ظاهرة في شعر المتنبي، كظاهرة التصريع الذي أسميه «التصريع المستأنف»، وهو التصريع في غير الأوائل، أي في داخل القصائد (راجع بحثاً لي عن التصريع المستأنف ضمن كتابي السابق الإشارة إليه)، ولكنها لا تند عن صاحب المآخذ. ومن ذلك بيت المتنبي:


وما بلد الإنسان غير الموافق
ولا أهله الأَدْنَوْنَ غير الأصادق

قال أبو العلاء: «هذا البيت قد ضعف بالتصريع ضعفاً بيِّنا، وهو كالمنقطع من معنى ما قبله ولم تجر عادة أبي الطيب بالتصريع في غير الأوائل»، فيقول ابن معقل، وهو العارف الخبير: «بلى قد جاء في قصيدته الدالية التي يمدح بها عضد الدولة وهي: أزائر يا خيال أم عائدْ
قوله:


يا طفلة الكف عبلة الساعدْ
على البعير المقلد الواخدْ

وفيها:


حكيت يا ليل فرعها الواردْ
فاحك نواها لجفني الساهدْ

وفيها:


يا عضُدا ربه له العاضدْ
وسائرا يبعث القطا الهاجدْ

وهذا التصريع، كما ترى في قصيدة واحدة. وأقول الأمثلة على التصريع في غير الأوائل عند المتنبي كثيرة. «راجع بحثي السابق الإشارة إليه».
أعود إلى فكرة القارىء المزوَّد informed، لأربط بين تفسير ابن معقل السابق لبيت المتنبي:


كن لُجَّةً أيها السماح فقد
آمنه سيفه من الغرق

وبين تفسير الأصمعي لبعض شعر الخنساء، في قصة جرت بينه وبين أصحابه وقد سجدوا بين يديه حين قدم لهم تفسيرا لهذا الشعر مختلفا عما قدموه وما فهموه. «كانوا قد تذاكروا قول الخنساء في أخيها صخر:


يذكرني طلوع الشمس صخرا
وأبكيه لكل غروب شمس

فسألهم عن «معناه». وجاءت إجاباتهم في إطار ما يسميه علماء اللغة «المقدرة» اللغوية، أي في إطار معرفتهم بالألفاظ وحدها: هي لا تنساه أبدا، فهي تذكره في الصباح كما تذكره في المساء. وهذا لون من الفهم يحصله كل من له معرفة باللغة وحدها لا يتجاوزها إلى معرفة واسعة بالأدب، فهم يقفون عند الحدود التي تحققها اللغة الايصالية. لكن الاصعمي قدم فهما آخر، فقال: تذكره وقت الغارات واحتياج الحي إلى الأبطال، وذلك عند طلوع الشمس، وتذكره وقت الغروب عندما يقدم القِرَى وتنصب الجفان للضِّيفان. وتلك قراءة أدبية تستمد من المعرفة بتقاليد الشعر العربي في مدح الأبطال بالجمع بين ما يمكن تسميته مقامي جلال وجمال، وهما المتمثلان في البأس والجود. البأس جلال والجود جمال. قال الشاعر، وهذا مثال مما لا حصر له من الأمثلة:


كفاك كف ما تليق درهما
جوادا وأخرى تعط بالسيف الدما

(راجع بحثا لي منشوراً في مجلة علامات، تحت عنوان: النقد الادبي المعاصر في كتابات عبد الله الغذامي، ويقع ضمن كتابي «آفاق النظرية الأدبية المعاصرة تحت الطبع والإعداد)
لقد تنبه ابن معقل لفكرة الجمال والجلال عن اقتدار، حين استخرجها من بيت المتنبي: العطاء والشجاعة. وهذا ما يشار اليه بفكره الناقد الخبير، أو ذي الخبرة، أو القارىء الضمني أو الناقد المثالي إلخ.
ومهما يكن من أمر، فليس غرضنا من هذا المقال ان نخوض في الكلام عن ابن معقل، فلذلك حديث آخر. وإنما أردت به أن أتحدث عن الجهد المحمود الذي بذله في اخراج كتابه إلى المثقفين والباحثين وجمهور القراء باحث كريم ممن أدلجوا وقد نام الناس.
الكتاب قام بتحقيقه الدكتور عبدالعزيز المانع الاستاذ بكلية الآداب جامعة الملك سعود الذي أبلى فيه بلاء حسنا، يظهر في تعقيبه الواسع للشواهد الشعرية في دواوين الشعر العربي في العصور المختلفة منذ الجاهلية وحتى عصر المؤلف، وفي غيرها من المصادر الأدبية، كما يظهر في تخريجه قوافي أبي الطيب من الشروح ومصادر أخرى، والشواهد الشعرية وحدها في الكتاب تربو على ألف شاهد شعري تقصاها جميعاً في الدواوين المختلفة وعكف على تبين بحورها ونسبتها إلى قائليها وضبطها ضبطا تاماً.
كذلك فقد قام المحقق بعمل لا يكاد ينهض له أحد من المشتغلين اليوم بتحقيق التراث، وهو الضبط التام لكل كلمة في الكتاب، مع ما يقتضيه ذلك من الفهم التام للنص. هذا غير ردّ كل بيت ورد فيه من أبيات المتنبي وغيرها كما ذكرنا إلى البحر الشعري، وغير المجهود الواسع الذي يتمثل في فهارس الكتاب بأجزائه الخمسة. ولا أتحدث عن معاناته في التوفر على نسخ الكتاب وغيره من المخطوطات التي اعتمد عليها للوصول بالكتاب إلى هذا المستوى اللائق. وهذا كله جهد حميد جزى الله صاحبه عنه الخير وأثابه.
لقد غبطته على كتاب ابن معقل وعمله فيه معا. فالكتاب يتناول أهم شروح ديوان أبي الطيب، وهي الشروح الخمسة: شرح ابن جني، وشرح أبي العلاء، وشرح التبريزي وشرح الكندي شيخ المؤلف وشرح الواحدي.
ورغبة المانع الحادة في التدقيق تثير رغبة موازية عند قارىء المآخذ في أن يكون مدققا بدوره في القراءة. التدقيق يعدي بالتدقيق. وكأن لسان حاله يقول: وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وقد عنت لي بعض الملاحظات التي أردت بها في الأساس أن أحيي جهده وأن أنوه به، لا أن أجاري صاحب المآخذ في البحث عن المآخذ، فهي على أي حال قليلة. وهي إذا قيست إلى حجم الكتاب أو إلى جهد صاحب التحقيق وصبره، لم تكن شيئا مذكوراً، بل هي حينئذ ترتد على صاحبها فتكون مآخذ عليه لا له. وهذا كما قال أبو الطيب:


فأجود من جودهم بخله
وأحمد من حمدهم ذمه

ولكن المانع كان قد أغره صاحب المآخذ من قبل بشيء من اتباع خطته في توجيه السهام، فكان هذا أول مرمى بها في أول شيء يقال عن شعره، إذ قال في المقدمة عنه:
«هو أقرب ما يكون إلى شعر العلماء، الذي يبتعد
كثيراً عن الطبع، ويقرب أكثر إلى الصنعة،
فموضوعاته تنحصر في المواعظ بالإقلاع عن
الخمر أو الغزل البارد، أو الأحاجي والألغاز».
بل هو لا يرتضي حكم الصفدي على شعر ابن معقل انه «شعر متوسط يقارب الجيد» حتى يكر عليه معيدا صياغته فيما يخبرنا فيقول:
«ان شعر ابن معقل شعر دون الجيد، أو هو شعر
ضعيف، إذا قيس بشعر الشعراء المعدودين حتى
في عصره الذي تدني فيه المستوى الفني للشعر.
ولعل حكم الصفدي يؤيد هذا».
وكنت أود لو توقف صديقنا المحقق عن الحكم حتى يتيسر له الاطلاع على ديوان الشاعر، إن سمحت له الايام بذلك. فإن الذي تيسر له من شعر ابن معقل مجموعة أبيات اختارها له بعض معاصريه أو غيرهم ولا يزيد مجموعها عن ستة وستين بيتا هي كل ما انتهى اليه المانع بعد ان بذل غاية جهده لجمع مقطعاته الشعرية في المصادر المطبوعة والمخطوطة. وقد أوردها في مقدمته التي قدم بها للكتاب، ولست أوافقه في استنباط أن هذه النماذج المذكورة في الكتب التي رجع إليها
«تعد من أرقى مستويات شعره، في رأيه يعني في
رأي صاحب الشعر نفسه، لأنه ينشده لعلماء
عصره كابن العديم، وابن النجار، فكل منهما
يقول مقدما لهذه المقطوعات: أنشدني.....
ولابد أنه اختار لهم من شعره أحسن ما عنده».
أقول لا أوافقه على هذا الاستنباط لأن التجربة تدل على أن شعر الاختيارات يشهد دائما على ذوق صاحب الاختيار وليس على مستوى الشاعر جودة أو ضعفا. وكونه أنشدهم ذلك بنفسه ليس دليلاً قاطعاً على شيء، فربما كان يختار لهم ما يجاري أذواقهم والناس يقولون الشعر لتكون لهم منزلة عند السامعين، فهم أعني السامعين أو الجمهور دائما في أحلامهم وفي يقظتهم . وهم دائما في سلوكهم كما هم في أقوالهم.
وحتى لو كان ابن معقل شاعرا ضعيفا فما كنت أحب لباحث جاد ومتضلع كالدكتور المانع أن يجاري تلك النزعة التي سيطرت علينا جميعا منذ عصور بعيدة، لتقسيم الشعر كغيره من الأشياء تقسيما طبقيا: أعلى وأدنى وسيد ومسود إلخ، فإن الناس في بلاد الدنيا الآن ما عادوا يدرسون شعر الشعراء لجودته أو ينفرون عنه لضعفه، أو ليحكموا عليه كذلك بالضعف أو بالجودة. وإنما صاروا يدرسون فيه قيما ثقافية واجتماعية مخبوءة فيه من قيم العصر وثقافته لا تسلم أنفسها للقراءة المريحة، التي تأتي فيها المعاني رهوا. ذلك ان النصوص ليست شفافة على هذا النحو الذي أردناها نحن عليه. إن الحكم بالضعف على الشعراء يغري بالزهادة في قراءة أشعارهم، في الوقت الذي نريد ان نحرص على الإقبال عليها. ثم إن الإلحاح الدائم على شعر الفحول بالطريقة التي اعتدناها في العصور المتأخرة وهو شيء لا يغض من قيمته أحد لا يقوي في نفوس الناشئة من طلاب الأدب فكرة التميز والابداع والرغبة في الاتقان والإحسان بقدر ما يقوى فيهم الشعور بأن الناس صنفان وطبقتان وجنسان، وان الطبقية في كل شيء. والفرق بين تزكية الشعور بالرغبة في الإتقان أو الإحسان الذي يأتي بالجهد والصبر وطول المداومة على الشعر وقراءة الأدب، وبين تأكيد فكرة الفرق بين الأدنى والأعلى في الشعراء وغيرهم راجع إلى الحظ وحده وإلى المكونات الوراثية ليس غير، أو إلى الموهبة الطبيعية التي لا حيلة لأحد فيها، وليس راجعاً إلى العمل والصبر والاجتهاد، أقول الفرق بين المعنيين شعرة. فلماذا لا نجعلها كشعرة معاوية، نحفظها ولا نقطعها؟
حسناً، لا أقول نضيِّع النهج القديم في التفرقة بين عال وأدنى، ولكن نضيف إلى ذلك نهجاً آخر، ونجمع إلى الذوق القديم ذوقاً جديداً، وننظر ماذا ستكون النتيجة.
من أجل ذلك كنت أدعو إلى الانصراف إلى درس الشعر واستخراج مكنوناته التي لا يبوح بها إلا بالجهد الجهيد، بغض النظر عن منزلته في الصنعة الشعرية، وهي أعني الصنعة الشعرية كانت من الشواغل الأساسية لابن معقل في تفسيره شعر أبي الطيب على أي حال!
(للحديث تتمة)
جامعة الملك سعود

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.comعناية مدير إدارة المعلومات
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved