Tuesday 7th May,200210813العددالثلاثاء 24 ,صفر 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

بعد أن تصمت المدافع .. المسمار في فن الاستعمار! بعد أن تصمت المدافع .. المسمار في فن الاستعمار!
د. فهد سعود اليحيا

تاريخ الاستعمار في حقيقته صراع بين الأقوياء على اقتسام قوت الضعفاء، والظفر بالغنائم، ونهب الثروات، وايجاد الأسواق، وتوسعة مناطق النفوذ، وفي أواخر القرن التاسع عشر بدا ان القوتين المتسيدتين على العالم هما فرنسا وبريطانيا «والرديف الروسي وقت الحاجة» مما يعني التعارض مع المصالح العثمانية والألمانية بالدرجةالأولى. وكانت النتيجة هي الحرب العالمية الأولى التي أدت الى تكريس بريطانيا وفرنسا سيدتين «هرمتين» على العالم.
بين طاعونين:
ليس هناك مجال للمفاضلة بين استعمار وآخر إذا كانت هناك مفاضلة بين الطاعون والكوليرا، ولكن هناك اختلاف في الأسلوب بينهما. إذ كان الاستعمار الفرنسي يعمد الى طمس الهوية الوطنية، وفرض ثقافته الخاصة وعمادها اللغة لالحاق المستعمرات ب«فرنسا الأم»، وتمثل الجزائر أوضح وأقوى مثال لذلك؛ ولذا كان الاستقلال الجزائري مخضبا بدماء أكثر من مليون شهيد. أما الاستعمار البريطاني فيعمد الى التعامل مع فئات بعينها من شعوب المستعمرات، يغدق عليها التعليم والثروة والحماية، لتقوم بدور الجباية بدلا عنه، وتكون كدمى مسرح العرائس يمسك بخيوطها؛ بينما عسكره جاهز للقمع الدموي عندالحاجة.
ولا يكتفي الاستعمار عند رحيله بما قد «لهف» بل يحاول انشاء منظومة مرتبطة به تدور في فلكه، فأنشأت بريطانيا منظمة الكومونولث «وتعني الثروة المشتركة»، وابتدعت فرنسا منظومة الفرانكوفون «وتعني الناطفين بالفرنسية»، ولكن أسوأ ما في الاستعمار البريطاني انه لا يرحل إلا ويترك وراءه بؤرة للصراع مثل ما هو قائم في قبرص أو شبه القارة الهندية أما ما حدث في فلسطين تحت الرعاية البريطانية فهو نموذج عبقري للفكر الاستعماري.
أهمية التاريخ:
واطلالة على انشاء اسرائيل، والأفكار المتداولة كإرهاصات حولها، والإعداد الدقيق والمتأني لها، سيعطينا معرفة صادقة لعدونا، ووعيا حقيقيا لأبعاد الصراع معه، وسنرى كيف جرت الأمور، وتجري، بنعومة وسلاسة التعبير الانجليزي «smoothly and nicely». وقبل ان ألخص للقارىء الكريم كيفية غرس الشوكة في عيوننا عليَّ أن أؤكد أني إنما أروي وقائع تاريخية، بلا أبعاد قيمية «من القيم» فهدفي هو محاولة التعرف على الواقع في سبيل محاولة استشراف المستقبل.
من السبي إلى..:
التغني بأرض فلسطين كأرض الميعاد بالنسبة لليهود بدأ منذ السبي البابلي وهدم الهيكل. وبعد 70 سنة استولى الملك الفارسي كورش الأكبر على بابل ثم بلاد الشام أمر بارجاع اليهود الى فلسطين مكافأة لهم على مساعدته في فتح بابل. ولكن بقيت أناشيد أرض الميعاد جزءاً من الأسطورة والتراث عندما توزع اليهود في أنحاء العالم بعد 200 سنة إثر سلسلة من الوقائع التاريخية. ومما يجب التأكيد عليه هنا أن اليهود ليسوا قومية عرقية، ولكن أتباع ديانة اعتنقها طوعا أو قسراً العديد من الناس، من مختلف الأجناس؛ ومن ضمنهم قبيلة الخزر الآسيوية الكبيرة العدد.
وفي أوروبا المسيحية الاقطاعية تعاطى اليهود بالتجارة والربا «المحرم في الديانة المسيحية». وبرعوا في التجارة لاحتقار التراث الأوروبي للتجارة، واحتفائه بالزراعة والحروب. بيد ان الطبقات التجارية في العالم المسيحي نشأت إثر الحملات الصليبية، وزاحمت اليهود في التجارة،وتعارضت مصالحها معهم، بيد أنها لم تتعاط الربا، ولأغراض سياسية اقتصادية معقدة كان حكام الدول الأوروبية يحمون أعمال اليهود التجارية تارة، ويحرضون عليهم شعوبهم تارة أخرى. وقد استعان ملوك أسبانيا بأموال اليهود لمحاربة العرب المسلمين ولمحاربة النبلاء الأسبان فيما بعد.
اضطهاد اليهود:
أثناء انتشار اليهود في أوروبا كانوا يعتبرون أنفسهم أرقى من باقي المواطنين. ولذا لا يختلطون بهم إلا في أضيق الحدود، وعمدوا الى السكنى في مناطق خاصة بهم «الجيتو» وتحكموا بالتجارة اعتمادا على الثراء من باب الربا الفاحش على وجه الخصوص. ولذا تعرض اليهود في مناطق مختلفة من العالم وعلى مر التاريخ الى أعمال عداء سافرة ومذابح كان أشدها المجازر التي تعرض لها اليهود في روسيا عام 1882م إثر اغتيال القيصر الكسندر الثاني. وأدى ذلك الى هروب جحافل اليهود من أوروبا الشرقية «خصوصا روسيا وبولندا» الى أوروبا الغربية والعالم الجديد «الأمريكيتين». كانت روسيا في بداية المرحلة الرأسمالية بينما كانت الرأسمالية متوطدة في أوروبا الغربية. وهو ما جعل اليهود محل ترحيب في أوروبا الغربية بقدر دورهم في الاقتصاد الرأسمالي. فالرأسمالية لا دين لها ولا قومية، ولكن إلهها الذهب وجنتها الأرباح.
الدعوى الصهيونية:
بناء على ما سبق ليس بغريب ان تظهر الدعوة الصهيونية على يد عدد من اليهود الشرقيين «السفارديم» لانشاء دولة لليهود خارج أوروبا. قبل ذلك كانت هناك دعوات يهودية لاندماج اليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها. ولكن المذابح والمصالح الاستعمارية و«...» الرأسمال تضافرت لأن تجعل من هذه الدعوة واقعا قويا وهدفا استراتيجيا. وفي عام 1861 أصدر الحاخام هاليرش كتاب «البحث عن صهيون» ونتج عن ذلك تأسيس أول جمعية صهيونية في العالم. ويعتبر كتاب «التحرر الذاتي» الذي ألفه «بينكسر» عام 1882 من أقوى الكتب الصهيونية وأبعدها أثراً إذ دعا الى قيام دولة لليهود في فلسطين أو أمريكا. وبين هذين الكتابين توالت أعداد من الكتب في نفس السياق كما أنشئت العديد من المنظمات الصهيونية. وحاولت هذه المنظمات وعملاء الاستخبارات البريطانية عبثا اقناع السلطات العثمانية بالعمل على تسهيل توطين اليهود في فلسطين. ومع ذلك تمكنت جماعات صغيرة من القدوم وتأسيس مستعمرات في فلسطين.
هرتزل:
كان ظهور تيودور هرتزل علامة فارقة في تفعيل الحركة الصهيونية. وفي بداياته كان من الداعين الى فكرة اندماج اليهود في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها. ولكنه اعتنق الفكرالصهيوني بناء على العوامل المذكورة أعلاه. وفي عام 1895 أصدر كتاب «الدولة اليهودية» وكان في مسعاه متنقلا بين ملك وآخر في أوروبا يبشر بدولة يهودية في فلسطين تكون «سداً لأوروبا أمام آسيا».
وبذل هرتزل جهوداً مضنية لعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 في «بازل» السويسرية. وحضره 304 مندوبا يمثلون جمعيات صهيونية متفرقة في أنحاء المعمورة. وحدد البيان الختامي لهذا المؤتمر «ان غاية الصهيونية هي خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام أي الدولي» معتمدا على وسائل هي: الاستعمار البشري لفلسطين، وتنظيم اليهودية العالمية، وتغذية الشعور القومي اليهودي «الصهيوني» والحصول على الموافقات الحكومية الضرورية لدعم هذه الغاية. وكتب هرتزل لاحقا في مذكراته:«لو أردت ان اختصر مؤتمر بازل في كلمة واحدة لقلت في بازل أُسست الدولة الصهيونية. ولكن بعد خمس سنوات على وجه الاحتمال وبعد خمسين سنة على وجه التأكيد سيرى هذه الدولة جميع الناس».
وبالفعل تم تأسيس اسرائيل في 15 مايو 1949 أي بعد مؤتمر بازل ب51 سنة تقريبا! بالطبع لم يكن هرتزل يقرأ الغيب، ولكن هذا ثمرة التخطيط العلمي، والنفس الطويل، والدراسة المتأنية للواقع، والتخطيط الدقيق للتحالفات وكل الشروط العلمية الأخرى الضرورية لكل مشروع عملي. ولو تقدم تأسيس اسرائيل عشر سنوات أو تأخر 20 سنة فهذا لا يتنافى مع الشروط العلمية، بل يؤكدها.
وللحديث بقية.

فاكس: 4782781

 

[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved