Thursday 1st August,200210899العددالخميس 22 ,جمادى الاولى 1423

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

إحالات إحالات
فايز أبا.. محاولة للألم..!
عواض بن شاهر العصيمي

في القاهرة، وأثناء تمتعه بوقته مع زوجته وطفلهما، تعرض الأستاذ الناقد فائز أبا إلى أزمة صحية خطرة جرفته بلا حول ولا قوة إلى أيدي الأطباء وأجهزتهم الطبية التي يصبح الشخص العادي ويمسي وهو يدعو الله ألا يقترب منها. وعلى امتداد أيام عديدة، كان الاستاذ فائز أبا حبيس أمرين طارئين في حياته، المرض، وهو شيء مقدر على كل ابن أنثى، والسرير الأبيض وهو نتيجة للأول.
في كلا الأمرين، كانت المسافة بينه وبين الأطباء تحسب بالأمتار أو أقل. بيد أنها بينه وبين العودة إلى جدة وتلقي العلاج بها بقيت ثابتة. وفي نفس السياق، كانت المسافة بينه وبين زوجته القاصة هناء حجازي تحمل أبعادها الإنسانية إلى أكثر درجاتها شفافية حيث لم يكن يؤلمها إلا كونها وحيدة وعاجزة عن فعل شيء كما أنها ليست في يديها خبرة الطبيب المختص لتقوم بالواجب.
غير أن هذه المسافة التي لم يكن المرض سبباً لتأكيدها بطبيعة الحال، كانت تتم فيما يخص القاصة هناء حجازي، على جانب المرأة الزوجة رفيقة الدرب المخلصة وشريكة الحياة. أما على جانب المرأة الأم فكانت المسافة في أحيان عديدة ثابتة الطول بينها وبين طفلها الذي مرغمة تتركه في الشقة السكنية لوحده إلى حين عودتها. المسافة التي كانت بين الأستاذ فائز والجهاز الطبي المختص كانت على عدة مستويات مختلفة. المستوى المهني المحض وهذا مما لا شأن له به حيث لا يسع الإنسان في هذه الحالة إلا أن يسلم أمره إلى الله ثم إلى حكمة هؤلاء البشر وخبرتهم في التعامل مع العوارض الصحية وعثرات الجسد في كل مرة يتطلب الأمر ذلك.
هناك المستوى الإنساني حيث يفترض أن يسخر الطبيب عمله وخبرته في مساعدة المريض على تجاوز عثرته الصحية في أقصر وقت وعلى أفضل وجه. في حالة فائز أبا يجدر بي أن أتطرق إلى المسافة بينه كحالة خاصة «وهي حالة الناقد المثقف الذي في ظرف استثنائي وضع مشرطه الخاص به في جيبه وجعل الخيارات مفتوحة بينه وبين مشرط الطبيب» وبين كل هذا المنجز النقدي والأدبي الذي لم يتخلف عن تشييده كل هذه السنين التي خلت يحق له، في تلك اللحظات العصيبة وفيما بعد، أن يسائله لمن كنت أكتبك وأنميك وأدق أجمل أيام حياتي على الأرض وفي كل الساحات، من أجل أن أبقيك حياً قوياً أمام الهزات؟.. هل كانت من أجل شقة فاخرة وعربة متعافية ووظيفة تدر عليه حليب المال بلا انقطاع، تلك الإسهامات في النقد وفي الترجمة وفي احتضان الموهوبين في كل مكان؟.
لعل الطبيب وهو يجس النبض لم يلتقط بسماعته الدقيقة، تلك الرعشة المغالية في ألمها التي ولدتها حالة التساؤل تلك. وهي مسافة ليس على الطبيب تقع مسؤولية التقاطها وفحص اسباب وجودها بالتأكيد، وإنما، كما أتصور، كان أحرى بمؤسساتنا الثقافية والدوائر التي تتصدى للعمل الثقافي في بلادنا أن تتحرك من تلقاء نفسها وتمثل صوتاً موحداً لإحاطة الجهات القادرة على نقل المريض والتكفل بعلاجه، علماً بالأمر. المؤلم في حدوث كل حالة مشابهة، هو أن نخبنا المثقفة من نقاد وشعراء وروائيين وكتّاب قصة ومسرحيين ورؤساء أندية إلى آخر القائمة، هذه النخب نراها في أضعف ما تكون في الوقت الذي كان حرياً بها أن تصبح أكثر البؤر التحاماً مع المثقف في مرضه وفي حالة حاجته للعون داخل البلاد وخارجها.
والغريب المحزن في نفس الوقت أنه ما أن يصاب مثقف عربي كبير بوعكة صحية أو بالتهاب في الحلق حتى تشتغل خطوط الهواتف بكامل طاقاتها من هذا النادي أو من ذلك النادي، من هذا المثقف السعودي أو من ذاك للاطمئنان وعرض الخدمات والتمنيات له بالعافية في اسرع وقت. وفي الواقع، ما كان يفترض أن ننتظر حتى تصدر قوانين لتنظيم أوضاع المثقفين وتحسين مستوى مجابهتهم لمتغيرات الحياة صحياً ومادياً، بل كان المأمول، وعلى المستوى الإنساني على الأقل، أن يحدث ذلك التفاعل الجميل والحميمي في الوسط الثقافي بشكل عام عند حدوث مثل هذه الحالة..
إنها مسافات شاسعة بين المثقفين أو بين معظم المثقفين لئلا يتهمني بالتعميم أحد، لا يحس بها إلا المريض. لقد أحس بها الأستاذ فائز أبا في الأيام الماضية، وأحس بها قبل أيام الروائي المعروف عبده خال حين أدخل المشفى بصفة طارئة ولم يرن الهاتف بجوار سريره إلا على يد قلة من الأصدقاء والمتابعين وقليل جداً من المثقفين. هذا يمنحني فضاء لن أسبح فيه كثيراً يتعلق بما يمكن أن أسميه «القطيعة غير المعلنة في أكثر الأوقات بين المثقفين» وهي حالة ليست تسر صديقاً بطبيعة الحال إذ يمكن أن تمر أيام طويلة بين مثقفين صديقين بانتظار صدفة عابرة ليسأل أحدهما الآخر عن الأحوال.
طبعاً أنا اتحدث هنا بعيداً عن إشكاليات الصراعات الأدبية والأيديولوجية و«الحلمنتيشية» المفتعلة في أحايين كثيرة والتي تجعل طوب العلاقة بين هؤلاء عبر مسافات متباعدة أكثر هشاشة وأكثر مدعاة للسخرية.
أعود إلى الأستاذ الناقد الإنسان المسفهل حتى في أحلك الظروف فائز أبا لأذكر أنه مثل لي في بداية علاقتي بالكتابة وكنت وقتها «أتمدح» أمامه بأني شاعر شعبي وعلى استحياء كنت أهمس له أني أكتب قصة قصرية، مثل لي (ومازال في الحقيقة) شخصية المثقف المتحرر من بروتوكول التعامل مع الشخص بناءً على هويته الأدبية أو بناءً على مدى اقترابه من منهجه في التفكير وفي النظر إلى الأشياء. كان يستمع باحترام وشغف للقصيدة العامية (مع التنبيه إلى أنه ليست أية قصيدة تثير اهتمامه)، ثم ما أن يفرغ منها كاتبها أو ملقيها، حتى تجده على استعداد لأن يناقش من يريد النقاش حول النص ولهجته وسياقه الثقافي وكل ذلك بدون فرد عضلات نقدية وهيلمان نخبوي.
وفي مكتبته التي أتذكر أنها كانت ضيقة نوعا ما ومكتنزة بالكتب والمطبوعات والملاحق الثقافية، كان يتحاشى اصطناع هيبة الناقد عندما يحين دور القصة لكنه وبدون أن تطلب منه أن يكون صادقاً، يكون صادقاً. وذلك ما جعلني في الواقع التفت إلى القصة واكتبها متحرراً من سطوة الناقد الذي كان قبل معرفتي بالأستاذ فائز أبا يربكني نوعاً ما. إني وإن كانت المسافة بيني وبينه على المستوى الجغرافي شاسعة وطويلة في الوقت الحالي، لأشعر أنها على مستوى العلاقة الشخصية قريبة ومملوكة للاحترام المتبادل والود النزيه.
ثمة نقطة صغيرة آمل ألا يضيق بها ذرعاً من له علاقة بها، وهي أن المثقف أو حتى الإنسان العادي من الأشياء البغيضة عنده أن نذله بتذكيره مرة بعد مرة بأزمته الصحية وأنه قد قدمت له الخدمات والمساعدة واستنفرت من أجله الجهود من قبل فلان وفلان وكثير من ذلك لم يحدث. الشيء المؤكد، أو هكذا أتصور، أن الذي يسر الله على يديه هذا العمل الإنساني النبيل إنما فعل ما فعل من أجل غاية ليس في مقدور البشر منحها له.

 


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved