الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 1st May,2006 العدد : 151

الأثنين 3 ,ربيع الثاني 1427

مساقات
شِعْرِيَّةُ القِيَم

*د. عبد الله الفَيْفي :
أشرنا في المساق السابق إلى أن (حمزة شحاتة) في محاضرته (الرجولة عماد الخُلق الفاضل) كان يلحُّ على حصر الحياة الاجتماعية الإنسانية في الرجل، وذلك في قوله: (عودوا الآن إلى كلمة الأستاذ العقَّاد: (ليس بحي الضمير مَن لا يسمع صوت ضميره مرةً)، واجعلوها: ليس رجلاً ذا ضمير مَن لا يسمع صوت حيائه دائماً). فجَعْل الضمير الذي نداؤه صوتُ الحياء متمثّلاً في الرجولة. كيف لا، وهو لا يرى في المرأة إلا بنت حوّاء غدّارة. ينطق بذاك النثر كما يفعل الشعر. فهو حتى حين يستخدم صورتها في شعره على سبيل الاستعارة - وإنْ للتعبير عن حُلُم غيبي جميل، كما في قصيدته (نفيسة)(1)- يصوّرها أحبولة شيطانية للرجولة، فيقول:
لا تقولي: أهواكَ، إنَّ بعينيـ
ـكِ حنيناً إلى دفوفِ الغابِ
أنتِ في مطلبِ الطبيعة أُحبو
لَةُ سِحْرٍ مَنصوبةٌ للشَّبابِ
لا تقولي: أهواكَ، فالحُبُّ قَيْدٌ
ودواعي الحياةِ ضدُّ القُيودِ
اذهبي مذهبَ الطَّبيعةِ، لا تَعـ
رفُ إلاّ غاياتِها مِنْ سُراها
وافعلي فِعلَها، فأنتِ صَدَى الدَّعـ
ـوةِِ منها، في عُهْرِها وتُقاها
وسواءٌ عندَ الزُّهورِ، إذا رَفَّ
سَناها، مَنْ صانَها أو جَناها
لا تقولي: أهواكَ، إنَّ هوى الأنْ
ثى خِداعٌ مُعَبِّرٌ عن مُناها(2)
ومردّ ميل هذا الخطاب إلى الذكوريّة المطلقة هو -حسب محاضرة شحاتة (تحديداً)- إلى جعل القُوّة مصدر الفضيلة من وجهة ماديّة جسديّة، ف(لا قوّة إلاّ بالرجولة)(3) كما قال.
(فهل الفضائل ألفاظ اخترعها القوي ووشّاها بالأحلام والتهاويل لاستغلال الضعفاء؟ أمّا تيارات الحياة المتدافعة فإنها تندفع في سيرها تكتسح الضعفاء ومبادئهم وآمالهم وأوهامهم وتكتسح الفضائل والأخلاق، لا قانون لها إلا القوّة؟ وارحمتاه للضعفاء! لماذا لا يتعلمون فنّ القوّة إذن ليكونوا أقوياء أو ليتّقوا شَرَّ القوّة؟)(4) بيد أن القوّة -هذه التي عوّل على أهميتها شحاتة في بحث القِيَم- هي -بمعناها الروحيّ، وكذا الفضيلة بمعناها الإنساني- مشتركة بين الرجال والنساء، متفاوتة بينهما؛ ولكَم تُثبت النساء، في ميدان الصبر والقُوّة والخُلُق الفاضل، تفوّقاً على الرجال؟! ولقد كمن منطق القُوّة وراء خطاب (شحاتة) منذ مستهلّ كتابه، مستشهداً ببيت (القُطامي)(5):
والناسُ مَنْ يَلْقَ خَيْراً قائلونَ لَهُ
ما يَشْتَهِيْ، ولأُمِّ المُخْطِئِ الهَبَلُ
وهو المنطق الشعري ذاته الذي عبّر عنه في مثل قوله، من قصيدته (الليل والشاعر)(6):
فانهض بأعبائك ذا قوّةٍ
ودَعْ لِنجوَى الضَّعفِ رُهبانَهْ
يا ليلُ، هذا عالَمٌ سادِرٌ
رشيدُهُ صاحَبَ غَيّانَهْ
ضعيفُهُ مفترسٌ جهرَةً
حاكَتْ يدُ الطُّغيانِ أكفانهْ
إنْ طَلَبَ الحقَّ به فاضِلٌ
هَدَّ عُرامُ الظُّلمِ بُنيانَهْ
أو طامَنَ الحُرُّ به نفسَهُ
أباحَ للطّاعنينَ إهوانَهْ
والأعزلُ المُدْلِجُ نَهْبَ القَنا
فيهِ، وإنْ سالمَ عُقبانَهْ
يا ليلُ، دنياكَ سِمامُ الحِجَى
أَضَلَّ فيهِ الرُّوحُ سُلوانَهْ!
الفتكُ فيها سُنَّةٌ تُقتَفَى
والفَوزُ للمُقحِمِ عُدوانَهْ
فاسبِقْ إلى الفَتْكِ بمَنْ خِفْتَهُ
تَرُدَّ على الظالِم طُغيانَهْ
واحمِلْ على الآمِنِ في سِرْبِهِ
إنْ لم يَكُنْ لاقيكَ أو كانَهْ
فالعيشُ حَرْبٌ، سادَ فيها الهَوَى
وأَسلَمَ الناظرُ إِنسانَهْ
على أن ثمّة ما يعدو تطابق خطابه الشعري والنثري إلى ما يتوارد في محاضرته عن مصادر - غير موثّقة لديه- من التفسير الاقتصادي للصراع الاجتماعي والقِيميّ. مصادر ذات نزوع مادي في فلسفتها، لا بدّ أنها قد سقطت إليه من قراءاته فيما عاصره من أطروحات.
فالرجل قد ابتُعث إلى الهند، وأقام بمصر زمناً، وظلّ قارئاً في مصادر الثقافة وينابيع الفكر، ومن قراءاته مثلاً: (السياسة) لأرسطو طاليس، وقصة (ابن الطبيعة) لهاتزبياتشيف، و(تاييس) و(الزنبقة الحمراء) لأناتول فرانس، و(حديقة أو مائدة أبيقور) و(أناتول فرانس في مباذله) لشكيب أرسلان، و(أهوال الاستبداد) و(أنا كارينينا) لتلستوي(7). حتى لقد بدت محاضرته في بعض أجزائها -لدى قارئ متأمّل- كما لو كانت ترجمة، أو نقلاً، تلمح أبعاد ذلك في اللغة والصياغة والمصطلح والفكرة. كل ذلك قد أدّى به إلى الاعتقاد (أنه لم يَعُد لنا مَعْدًى عن الاعتراف بأن الفضائل، في مراميها الخفيّة، أنانية مهذّبة، ميزان الربح والخسارة فيها قائم منصوب)(8).
ولا شكّ -في هذا السياق- أن أثر فلسفة الفيلسوف الألماني (نيتشه، فردريش Nietzsche، 1844- 1900) على محاضرة شحاتة غير خافٍ. تلك الفلسفة الذاهبة إلى ما تدعوه (إرادة القوّة) - ولنيتشه كتاب بهذا العنوان- وأن الحياة ليست إلا تَطَوُّراً في تَنَازُع البقاء، مصيره إلى الأصلح، وأن (الإنسان الأعلى) غايةٌ مُثلى يجب بلوغها.
وإذا كان نيتشه من مؤسسي الجرمانية فلقد كان الدارس وهو يقرأ المحاضرة يتساءل عن نزعة شحاتة (الهتلريّة) أيضاً، فيعلّق ذلك التساؤل على بعض الصفحات(9)، حتى جاء (باخطمة، محمّد صالح)(10) ليؤكّد حقيقة ما كان ينمّ عنه خطاب شحاتة من ذلك النزوع، إذ ذكر أن شحاتة كان معجباً بأدولف هتلر، وأنه قد أصابه إحباطٌ بهزيمته.
وبذا نقف لدى شحاتة على خطابين متعارضين؛ خطاب عربي صميم يرى (الرجولة عماد الخُلق الفاضل)، وخطاب مقابل غريب عن ثقافته، يبدو عن آثار ثقافيّة حديثة، كأن يقول: (ونزيد قولنا وضوحاً فنقول: إننا لا نرى معنى لنشوء الفضائل في الطور الأول من حياة الإنسان القديم)(11)، ذلك أنه بهذا يُلغي خاصيّة العقل الإنساني، المهيّأ فطريّاً للنظر والتمييز، ليتبنّى هنا ما يشبه رؤيّة نيتشية في نشوء الفضائل، كرؤيته شبه الداروينيّة في نشوء المجتمع البشريّ، وإلا فمصادره الثقافية، التي أَمْلَتْ عليه أن (الرجولة عماد الخُلُق الفاضل)، تقول قطعاً: إن الإنسان لم يكن حيواناً في يومٍ من الأيام، وأن الله علّم آدم الأسماء كلها من أول يوم، وأنه قد هداه النجدين. وذلك ما سنفصّل القول فيه في المساق المقبل إن شاء الله.
***
إحالات
(1) (1988)، ديوان حمزة شحاتة، (الطبعة الأولى:؟)، 55- 60.
(2) م.ن.، 51- 52. وقد استوفى تحليل هذا الجانب من موقف شحاتة من المرأة (الغذامي، عبد الله، 1985)، الخطيئة والتكفير، (جُدّة: النادي الأدبي الثقافي)، 111- 000، بما يُشير إلى أن الأمر لديه يتجاوز الإرث الذكوريّ إلى عُقدة نفسية تضرب بأعماقها في اللاوعي الجمعي الإنساني.
(3) شحاتة، حمزة، (1981)، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، (جدة: تهامة)، 121.
(4) م.ن.، 67.
(5) (1960)، ديوان القُطامي، تح. إبراهيم السامرائي؛ أحمد مطلوب (بيروت: دار الثقافة)، 25.
(6) ديوان حمزة شحاتة، 285- 286.
(7) يُنظر: ضياء، عزيز، (1397هـ)، حمزة شحاتة: قمّة عُرفت ولم تُكتشف، (الرياض: دار الرفاعي)، سلسلة المكتبة الصغيرة برقم 21، عن: شحاتة، م.ن. - المقدمة، 13، 16- 20.
(8) شحاتة، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، 77.
(9) كالصفحة 68.
(10) في ورقته التي ألقاها في ندوة (قراءة النص)، (النادي الأدبي الثقافي بجُدَّة: عصر الثلاثاء 14-2- 1427هـ= 14-3-2006م)، بعنوان (الفارس غاب.. أحداث في حياة حمزة شحاتة).
(11) شحاتة، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، 38.

aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved