Culture Magazine Monday  02/04/2007 G Issue 193
فضاءات
الأثنين 14 ,ربيع الاول 1428   العدد  193
 

مساقات
تداخل الأجناس في بلاغيات النصّ المعاصر
(3- 3)د. عبد الله الفَيْفي

 

 

تحدثنا في المساقات الماضية عن فعاليات المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي، الذي أقامته الجمعية المصرية للنقد الأدبي، في القاهرة، في الفترة من 1 نوفمبر إلى 5 نوفمبر 2006، تحت شعار (البلاغة والدراسات البلاغية). وقد سقنا في المساقين السابقين طرفًا من ورقة البحث التي ألقاها كاتب هذه السطور في المؤتمر، بعنوان (القصيدة - الرواية: تداخل الأجناس في بلاغيات النصّ المعاصر ((الحزام) لأبي دهمان: نموذجًا)). وأشرنا إلى ما عرج عليه البحث مما أورده جان إيف تادييه Jean Tadi e في ما أسماه ب(الرواية الشعرية)، معرباً عن أنه يمثل كسراً في قواعد الخطاب الروائي، وذلك حينما (تتحول الرواية إلى شكل شعري بكل ما يميز هذا الشكل من (تناسق) و(خفوت)). غير أن ما تحدث عنه تادييه- كما سلف- إنما يمثل صراعاً (بين الوظيفة المرجعية ذات الدور الإيحائي والتمثيلي، والوظيفة الشعرية التي تشد الانتباه إلى الشكل ذاته للخطاب). بحيث يغلب أحد الطرفين- الروائيّ أو الشعريّ- الآخر، ومن ثم تفتح (الرواية الشعرية) (في غنائها العميق الأساطير لمتعة الحواس، وتفتح الإحساس لفرحة الأساطير)، حسب (بوعلي، عبد الرحمن، (1996)، المغامرة الروائية، (وجدة- المغرب: جامعة محمد الأول)، 249). أي أن ما سماه تادييه (رواية شعرية) تظل رواية كاملة الهوية، لولا أنها توظّف الشعرية لأغراض روائية. ولعل خير نماذجها في السياق العربي (رامة والتنين)، لإدوار خراط.

ويأتي هذا الشكل الكتابي نتاجًا حداثيًّا، تنطمس فيه الفروق بين الأجناس الأدبية، حيث بات الشعر يتقمّص النثر، منذ تي. إس. إليوت T.S. Eliot، أو إي كامنجز Ee Cummings، مثلما يتقمّص النثر الشعر، كما هو الحال عند وولف Woolf، أو جويس Joyce، أو نيكوس كازانتزاكي Nikos Kazantzaky.(1)

والروايات اليوم - كما يشير الشاعر المكسيكي (أوكتافيو باث)(2) - تنزع عمومًا إلى التحوّل أكثر فأكثر إلى تشكيلات لفظية، غير كثيرة الاختلاف عن بنى الشعر، كما تستعيد القصيدة لدى بعض الشعراء النَّفَس الملحميّ، فتقترب من الرواية.

إلا أن قصارى ما يعنيه هذا هو اختلاط الشعر بالنثر في ضرب من تقنيات الخطاب الروائي الحديث. وذاك غاية ما يدل عليه مصطلح (الرواية الشعرية) لدى (تادييه). أي أن مصطلح (الرواية الشعرية) ما هو إلا محاولة لفرز هذه الرواية المتمتّعة بمسحة شعرية عن الرواية النثرية الاعتيادية، فهو نظير تسميات أخرى، ك(الرواية البوليسية) أو (الرواية الغرائبية) أو (رواية المغامرات)، ونحوها. أمّا ما هي بصدده هذه المقاربة حول (القصيدة- الرواية) فيتجاوز فضفاضية هذا الاصطلاح وأريحية ذاك المفهوم، الدائر في فلك الرواية، بوصفها جنساً أدبيّا. من حيث إن نماذج هذا النمط محلّ الدراسة تكاد تمّحي هويتها الروائية في شعريتها، وهو ما يسوّغ اتخاذها مصطلحاً جنسيًّا جديدًا، وهو: (القصيدة-الرواية).

والأعمال الثلاثة المشار إليها من (القصيدة-الرواية) في السعودية- نعني: (سقف الكفاية، لمحمّد حسن علوان، والحزام، لأبي دهمان، والغيمة الرصاصية، لعلي الدميني)- تمثّل أبرز النماذج من هذا النوع الذي ينتقل فيه النصّ من محض التوالج الشعريّ بالسرديّ إلى ما يُطلق الدارس عليه (القصيدة-الرواية). وقد أُنتجت جميعها خلال نهايات العقد الأخير من القرن الماضي وبدايات العقد الأول من هذا القرن. وقد تكون لهذا التوقيت في ذاته دلالته. التي تتمثل- ربما- في محاولة الذاكرة الشعرية العربية الانتصاف من جنسٍ أدبي- هو الرواية- كان قد شَرَعَ يُزاحِم فن الشعر في عُقر داره، ويسحب البساط من تحت قدميه، في قلب وجوده العربي، جزيرة العرب، فيَسْتَرِق منه أضواءه التاريخية. فجاءت بمثابة حركة لا واعية يمارسها هؤلاء الشعراء، وكردةَ فعلٍ شعرية، تنضاف إلى ردّات الفعل الأخرى العربية المتوالية، ولاسيما عقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، فضلاً عن دوافع التيار العالمي الجارف صوب النثر وفن القصّ الحديث.

والمؤكد أن أولئك الشعراء قد خَطَوا خطواتهم نحو الرواية برغبة حقيقية في إنجاز أعمال وفق الشروط الروائية، وأن لهم إلى ذلك حاجاتهم النفسية والاجتماعية لتوسّل قناة جديدة للتعبير، أكثر استيعاباً لهموم الراهن وقضايا العصر من قصيدة شعرية. غير أنهم، وهم يُخْلِصون أنفسهم من أجل هذا الهدف- في نزعة إنسانية يراود حلمُ الرواية أبدًا مخيلتَها ووجدانها- ظلّوا يحملون هاجس الشاعر النجم، الذي له (الصدر دون العالمين أو القبرُ)!

وهذه النزعة الشاعرية الذاتية كانت وراء تميّز نصوص هؤلاء الشعراء بالذاتية الواضحة، فيما هم يكتبون نصوصاً تُفترض فيها الموضوعية. يتبدى ذلك أولاً، في أن لغة السرد لديهم جميعاً تعتمد على ضمير المتكلم. ومن ثم تأتي سرد يّة نصوصهم أشبه ما تكون- إن لم تكن كذلك بالفعل- بالسيرة الذاتية، المغرقة في ذاتيتها. في حين لو قورنتْ كتاباتهم بروايات مجايلهم من الناحية الفنّية (تركي الحمد)، على سبيل المثال- وليس بشاعر- لتبيّن أن هذا الأخير لا يعتمد في سرده على ضمير المتكلم، وإن بدتْ أعماله، هو الآخر، ضرباً من سيرة ذاتية، تتوسّل الشكل الروائي لبثّ خطاب (سياسي-اجتماعي). وتلك (السير- ذاتية) المغرقة في ذاتيتها، التي يعتمدها هؤلاء الشعراء، تجعل تعاملهم بضمير المتكلم يراوح بين ضمير المتكلم الغنائي وضمير المتكلم المطابق للمؤلف وسيرته، أي أنه يبدو أشبه بتعامل الشاعر الملحميّ القديم مع نصّه(3). فماذا كان منتوج تلك الحساسية الجديدة للشعريّة الروائيّة؟ لقد كان أن تمخّضتْ عن تلك النصوص التي ظاهرها الرواية وباطنها الشعر. أي أنها مثّلت أوبة متأخرة إلى ما يشبه الملحمة الشعريّة، مع فارقين رئيسين:

1) شكلي، يتعلق بتجرّد (القصيدة- الرواية) غالباً من شكلانية الشعر الصارمة، من حيث الموسيقى الخارجية، من أوزان وقواف. فيما عدا الشواهد والتضمينات وبعض الظواهر العامّة.

2) تركيبيّ فنيّ، يتعلّق بتقصير (القصيدة-الرواية) عن ذلك البناء القصصي الملحمي، أو النسيج السردي الروائي المعروف، واستنادها على بنية حكائية بسيطة، تُشحن باستطرادات الكاتب في الخواطر المحلّقة في فضاءات الشعريّة. ما يجعل تلك الأعمال تبدو حاملة من الشعريّة المكثّفة أكثر مما تحمل من السرديّة الروائيّة. ومن هناك استنبت أولئك الكُتّابُ- من حيث وعوا أو لم يعوا- جنساً مختلفاً عن الملحمة الشعريّة وعن حفيدتها الرواية، معاً، هو هذا الجنس الذي نسميه: (القصيدة-الرواية).

وحينما نستعمل هذا المصطلح فإننا نلحّ على أن ننفي عن هذا النوع شعريته وروائيته، في آن. لنقيم له هوية في منطقة وسطى، بين عالم الشعر وعالم الرواية. ولكي لا يتكرر هناك المأزق الجدلي الصاخب المصاحب لمصطلح (قصيدة النثر)، يجب أن يُفهم أن: (القصيدة-الرواية) غير (قصيدة الشعر)، مثلما كان ينبغي أن يُفهم من قبل أن: (قصيدة النثر) نوع مختلف عن (قصيدة الشعر)، من حيث هي لا بشعر خالص ولا نثر خالص.

(1) يُنظر: كلاجز، ماري، ما بعد- الحداثة، ترجمة: عثمان الجبالي المثلوثي، ص1، على شبكة الإنترنت: موقع مجلة (فضاءات)، ع16: http:// www.fadaat.com/a16/d4.htm .

(2) تُنظر: جريدة (عكاظ)، السعودية، الاثنين 28 جمادى الأولى 1424هـ= 28 يوليو 2003م.

(3) يُنظر: ويليك، رينيه؛ أوستين وارين، (1987)، نظرية الأدب، تر. محيي الدين صبحي، مر. حسام الدين الخطيب (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر) 225

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* (عضو مجلس الشورى) aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة