الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 02th May,2005 العدد : 104

الأثنين 23 ,ربيع الاول 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم 17 (الشجاعة والحياء)
د. عبد الله الفَيْفي
1
تقدّم في المساق الماضي أنه ما دامت بواعث القيم سامية في النفس البشرية، فقد كان المفترض فيها أن تكون مشتركة بين الناس. غير أن حواجز المجتمعات، ومن ثَمّ حواجز الثقافات، قد أفرزت التمايز بين أهل كل مجتمع وثقافة وأهل كل مجتمع وثقافة آخرين. بل لقد أفرز العزل الاجتماعي التمايز داخل المجتمع الواحد نفسه، كأن تكون هناك قيمة مرتبطة بالذكور دون الإناث، أو العكس. حتى إن (موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، (الرياض: دار رواح، 1412هـ =2000م) لتدلّ على ذلك بقولها: (57:1): (الشجاعة التي تعبّر عن قيمة يجلّها أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم، تطفو على سطح الذاكرة عند كل موقف (رجولي)، يقتضي (شهامة ورجولة). وكأن الشجاعة قيمة لا تكون إلا في الرجال، مع أنها تكون في النساء كذلك، من حيث هي خصلة نفسية، وذلك ما أثبتته المرأة اللبنانية، على سبيل المثال، خلال الحرب الأهلية هناك (1)، كما أثبتته المرأة عبر شواهد التاريخ. إلا ان العرف الاجتماعي يجعل نموذجية الشجاعة ها هنا مرتبطة بالذكورة وحدها. ويشهد على هذا النزوع التصنيفي للقيم المجلدُ (الثلاثون) من الموسوعة، الخاص بقيمة الشجاعة، حيث تقترن الشجاعة بالرجل عند العرب، حتى ان هذه الصفة لا توصف بها المرأة، حسب ما يزعم (ابن فارس) (2) عن (أبي زيد). (قال أبو زيد: سمعت الكلابيين يقولون رجل شجاع، ولا توصف به المرأة). (3) وتوشك هذه الصفة حين تقترن بالمرأة في لسان العرب أن تشير الى قيمة سلبية من قلّة الأدب (مع الرجال)، (فالشجعة من النساء الجريئة على الرجال في كلامها وسلطاتها).(4) فهل ذلك لطبيعة المرأة حسب، كما حاولت (موسوعة القيم)، (8:30)، ان تلتمس التوفيق بين نفي الشجاعة عن المرأة واتصاف بعض النساء بها؟ أم أن الأمر يتعدى ذلك الى قيمة الذكورة والأنوثة في المجتمع العربي أصلاً، والميل الى عزل المرأة عن مواجهة الحياة، بحجة ظاهرها ضعف المرأة وباطنها قِيَم ذكورية أخرى، وصلتْ في بعض مستوياتها في المجتمع الجاهلي الى وأد المرأة، للتخلص من مشكلة عجز المجتمع عن استيعابها او مواجهتها؟ هذا لأن من دواعي الشجاعة وأسبابها دفع الظلم والذل (كذا في الموسوعة، والصواب: الذبّ) عن النفس، وطلب العز والمجد، حسبما تقول الموسوعة (5)، وليس للمرأة نصيب من ذلك، إن لم يكن نصيبها بعكسه.
2
ويمكن أن يقال نقيض هذا عن قيمة أخرى أكثر ارتباطاً بالمرأة، وهي قيمة الحياء. حتى كانت الفتاة مضرب المثل في الحياء، فجاء في أمثال العرب: (أحيا من بكر)، و(أحياء من فتاة)، و(أحيا من كعاب)، و(أحيا من مخدّرة)، و(أحيا من هَدْي)، و(أحيا من مُخبأة) (6). وتقول المرأة نفسها في امتداح الحياء في الرجل، وان كان أصله في المرأة، (الخنساء) (7):
وأحيَا من مخبّأةٍ كَعابٍ
وأشجع من أبي شبل هِزَبْرِ
كما تقول (ليلى الأخيلية)(8) عن حبيبها (توبة بن الحُمَيِّر):
وتوبة أحيا من فتاةٍ حَيِيَّةٍ
وأجرأُ من ليث بِخُفَّان خادر
وهذا ما تقرّه موسوعة القيم (8:25) حينما تقول عن الحياء: وأجمل ما يكون في النساء، وذلك حين تنكسر أنظارهن وتتمارض لواحظهن، مستشهدين، بشعر للفرزدق. لأنه كما أن الحياء يستر صاحبه كما يستره اللباس، فإنه كذلك يقيه قالة الناس، ويمنع عرضه من آفات ألسنتهم وقذفه بالحق او بالباطل، وهو بالنساء أجمل وألصق، يقول (النابغة الجعدي) أثناء مدح نساء تميم:
ومثل الدُّمَى، شُمُّ العرانين ساكن
بهنَّ الحياء لا يشعن التَّقافيا (9)
ولذلك قد تدعى المرأة عدم الحياء والعفاف كما تذكر الموسوعة (10) لتذيق الرجل طعم الغيرة، مثلما فعلتْ (هند الهمدانية) (11)، في رسالتها الى زوجها، الذي ذهب غازياً:
ألا فاقره منّي السلامَ وقُلْ له:
غنينا بفتيان غطارفة مُرد
بحمد أمير المؤمنين أقرَّهم
شباباً واغزاكم خوالف في الجُند
إذا رجع الجند الذي أنت منهم
فزادك ربُّ الناس بعداً على بعد
ولكنّ تناقض هذه الأبيات مع الحكاية التي سبقت فيها يكشف الخطاب الذكوري وراءهما. ذلك ان تلك الحكاية تزعم ان الهمدانية كانت امرأة ملازمة للعفة والصون والحياء، معتكفة على السجود والصلاة، وان الزوج، حين حملته أبياتها على العودة غيرةً الى بيته، وجدها معكتفة، فقال: يا هند، أفلعت ما قلت؟ فأجابته: الله أجل في عيني واعظم من ان اركب مأثماً، ولكن كيف وجدت طعم الغيرة؟! وهكذا يظهر تلفيق الأبيات مع الحكاية. فإما ان الأبيات مصنوعة أصلاً، ليس بهدف تحلية الحكاية فحسب، ولكن لخطاب ضمني يحتثُّ الرجال على عدم الثقة، في زوجاتهم، وان لا يفارقوهن، وإلا افتضحن بين الناس، وان كن في عفة الهمدانية! لأنه يبعدُ واقعياً أن تقول زوجة عن نفسها وزوجها مثل تلك الأبيات المتبذلة، مهما كان دافعها الى ذلك، ناهيك عن أن تكون زوجة كبطلة الحكاية. او ربما كانت الأبيات حقيقة، والقصة التي اكتنفتها هي المختلقة، وذلك كي تنفي احتمالية ان تراود الأنثى نفسها كما تراود الذكر نفسه الى مثل تلك الخيانة الزوجية! وعلى كلا الاحتمالين يبدو تدخل القلم ذي القِيَم الذكورية لنفي البشرية عن المرأة، او مساواتها مع الرجل في السلوك، ايجابياً او سلبياً.
وهكذا، فإن ذلك القلم المدرب على الاحتيال القيمي ما ينفك يلتمس تسويغ ما قد تنبو عنه أعراف المجتمع وفق سلطان العادات والتقاليد وإن ارتكب بذلك في المقابل ما ينبو عنه الواقع، ومنطق الأشياء، وطبائع الأمور، وسنن الله في خلقه!
(والبحث مستمرّ).
إحالات:
1 انظر: كلاب، إلهام (1949، نسق القِيَم في لبنان، مجلة المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، (ع 183، ص ص 91 109)، 101 .
2 انظر: ابن فارس، 1952، معجم مقاييس اللغة، تح. عبدالسلام هارون (القاهرة: دار إحياء الكتب)، 247:3 (شجع).
3 ابن منظور، لسان العرب، (شجع).
4 م.ن.
5 33:30
6 الزمخشري، (1987)، المستقصى في أمثال العرب، (بيروت: دار الكتب العلمية)، 90:1 91 .
7 الخنساء، (د.ت)، شرح ديوان الخنساء، (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 48
8 الأخيليّة، ليلى، (1967)، ديوان ليلى الأخيلية، تح. خليل إبراهيم العطية وجليل العطية (بغداد: دار الجمهورية)، 20:80 .
9 موسوعة القِيَم، 23:25
10 انظر: 71:25 72 .
11 أنظر: يموت، بشير، 1998، شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام، تح. عبدالقادر محمد مايو (حلب: دار القلم العرب)، 232233 .


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved