الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 4th October,2004 العدد : 79

الأثنين 20 ,شعبان 1425

مساقات
د. عبد الله الفَيْفي
نَقْدُ القِيَم مقارباتٌ تخطيطية لمنهاج علميّ جديد
إن استعمال (القيمة Value) مدرَكاً فلسفيًّا ومصطلحاً حديثُ العهد، لا يتجاوز عمرُه في الفكر الغربي ثلاثينيات القرن الماضي، حيث وُلد في أحضان الفلسفة الوضعية في (فِيَنَّا بالنمسا) بعد الحرب العالمية الأولى(1). ومن ثَمَّ، وعلى الرغم من أن الاهتمام بمسألة القِيَم قديم قِدم التاريخ الفلسفي، فإن المحاولات الجادّة لدراسة القِيَم دراسة علمية (إمبريقية) إنما ظهرتْ حديثاً؛ حيث قام في العصر الحديث (علم اجتماع القِيَم) بوصفه فرعاً من الفروع المستحدثة في علم الاجتماع، إلا أنه ظلَّ فرعاً من مباحث علم الاجتماع، وأهملتْ الدعوة لقيامه موضوعاً مستقلاًّ للبحث. بل لقد قامت دعوة إلى أن يترك علمُ الاجتماع القِيمَ وشأنها إلى البحث الفلسفي والأخلاقي. وهو ما حدث بالفعل، إذ ما زالت القِيَم تناقش تحت مقولات الأخلاق وفلسفتها، مع أن (نظرية القيمة) كما يؤكّد W. H. Werkmeister، وS. C. Pepper ينبغي أن تكون أوسع مجالاً من الأخلاق(2). بل لقد استمرَّ اختلاف الآراء، لا حول مجال (نظرية القيمة) فحسب، ولكن أيضاً وعلى نحو كبير حول: ما القيمة؟ لينتهي معظم الفلاسفة إلى أن (القِيَم والتقييم خارج نطاق التفسير العلمي) (3). لذلك ظلَّ مشروع البحث العلمي في القِيَم يرواح مكانه في العصر الحديث، مع بعض استثناءات قليلة حاولت مقاربة القِيَم بمنهجية علمية(4).
ولذا، فإن هذه القراءة لتتطلّع أيضاً بمراودة هذا الحقل إلى اجتراح هذا الأفق البحثي، سعياً نحو ما يمكن أن يفضي في مستقبل الأيام إلى تخلّق علم جديد، هو: (علم القيم الإنسانية). فكما أن الدراسات الاجتماعية الحديثة تعلن أن الظواهر الخُلُقية ظواهر اجتماعية، وأن لها (قواعد) يمكن التعرّف عليها، وأن بالإمكان وصفها وتصنيفها والوقوف على القوانين التي تفسرها(5)، كذلك (القيم) بمفهومها الأشمل ينطبق عليها ما ينطبق على الظواهر الخُلُقية. فبوسع (علم القيم) أن يتصدّى لدراسة قوانين نشوء القِيَم وحركاتها عبر التاريخ، كما سيدرس حالات انقراض القِيَم وتبدّلاتها، تلك الحالات الشبيهة بما هو حادث أزلاً أبداً في مختلف الظواهر الاجتماعية والطبيعية. نعم، رأت المدرسة الاجتماعية أن للمجتمع ضميراً جمعيًّا هو الذي يسنُّ القِيَم السلوكية للفرد(6)، ولكن هل دُرس هذا الضمير، من حيث هو، في تشكّلاته المختلفة وتحولاته المستمرّة؟ وصحيح أن (كل من يسعى إلى تصنيف الثقافات (أو بعبارة أقلّ طموحاً أن يصوغ تعميمات كلية حول السلوك الإنساني) معرّض لمجابهة أولئك الذين يتمسّكون بالخصوصية الكامنة في المجتمعات والتنظيمات المختلفة، وينهضون مع علماء الأنثروبولوجيا محتجّين: (ليس صحيحاً في قبيلتي)، إلا أنه بالرغم من التسليم فعلاً بأن للأمم (أنظمة متميزة من القيم والمعتقدات والعادات، فإنه من الممكن حصر قناعاتهم حول الحياة في عدد قليل من التحيّزات الثقافية)(7).
(علم القيم)، إذا وُجد، إذن لا بدَّ سيتداخل مع علوم أخرى، في صدارتها علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الإناسة (الأنثروبولوجيا). أهو نفسه (علم الأخلاق Ethics)؟ لا شك أنه سيتقاطع مع علم الأخلاق، لكن (الأخلاق) لا تترادف تماماً مع (القِيَم)،
كما توشك (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق)(8) أن توهم قارئها، على الرغم من تركيب عنوانها من هذين المصطلحين معاً (القِيَم) و(الأخلاق) ما يشير إلى التفريق بينهما. وعلى الرغم أيضاً مما قدمته (1: 47) من تعريف دالّ على شمولية القِيَم وخصوصية الأخلاق، في قولها عن القيمة: إنها (لا يحدّها إلا السياق حيثما يأتي متضمّناً بعض المقاصد التي تشملها هذه الكلمة، وإلا فإنها ستدلُّ على كل سلوك تحكمه مقوّمات منهجية سليمة، يتقبّلها المجتمع السليم ويثمّن دورها في صناعة الترابط الذي ينشده في كل حين.) وكذلك ما تذكره (1: 76) مشيرة إلى أن القِيَم الأخلاقية ما هي إلا جزء من القِيَم العامة، حينما تقول: (إن بعض الباحثين يُجملون كل القِيَم في مجموعات نسقية، هي قِيَم في المجال الأخلاقي، مثل الشعور بالواجب، وحياة الضمير، وقِيَم المجال الجمالي بكل معانيه وأبعاده، وقِيَم المجال النفعي).
إن الأخلاق، إذْ تَزَعُ البذار الأولى للقِيَم العامّة، إنما تشكّل في الممارسة دائرةً تنضوي تحت الدائرة الأوسع (دائرة القِيَم). ومن ثَمَّ لن يكون (علم القِيَم) مرادفاً لـ(علم الأخلاق). فعلم الأخلاق هو علم معياريّ يبحث في الأخلاق القيمية التي تنصبُّ على الأفعال الإنسانية، من حيث هي: خيرٌ أو شرٌّ. وهو ضربان: علم السلوك، أو علم الأخلاق العمليّ، وضربٌ يبحث نظريًّا في حقيقة الخير والشر والقِيَم الأخلاقية من حيث هي(9). غير أن (علم القِيَم)، الذي تبشّر هذه القراءة به وإن كان سيرتبط جزئيًّا بالبحث في الأخلاق سيُعنى بما هو أدق من الأخلاق، وأعمق، وأشمل. ومما يدلّ على أن مفهوم القِيَم أوسع من الأخلاق أن قِيَماً إسلامية قرآنية مثل (العقل والعقلانية)، و(العلم) لا تدخل في الأخلاق، بالمعنى السلوكي وحقيقة الخير والشرّ. يضاف إلى ذلك أن (علم القيم) لن يبحث في دائرة الأخلاق في الخير والشر فحسب، بل سيشمل بحث
المبادئ الأولية التي تشكّل بواعث سلوك الإنسان، تلك البواعث التي تمثّل لديه حوافزه الذهنية والنفسية والدينية والاجتماعية والفلسفية، الموجّهة لسلوكه الجماعي. وبالجملة، فإن (علم القيم) من هذا المنظور سوف يشمل في دائرته الأوسع ذلك الثالوث الفلسفي الإنساني القديم من: (قِيَم الحق، وقِيَم الخير، وقِيَم الجمال)، تلك القِيَم الكبرى في الوجود الإنساني التي تنبثق عنها جميع القِيَم الفرعية. بل لقد يتعدّى هذه الدائرة لبحث ما يمكن أن يسمى ب(القيم السالبة) من منظور أخلاقيّ معياريّ أي تلك التي تمثّل قِيَماً وفق عُرف معين أو عصر أو فئة اجتماعية. وذلك كقيمة (الظُّلْم) في العصر الجاهلي، تلك القيمة التي عبّر عنها (زهير بن أبي سلمى)(10) بقوله:
ومَنْ لا يَذُدْ عن حوضهِ بسلاحهِ
يُهَدَّمْ ومَنْ لا يظلمِ الناسَ يُظْلَمِ
مضافاً إليها قيمة (الغَدْر) الذي هُجيتْ بانتفائها قبيلة عربية، هي قبيلة بني العجلان، حيث قال فيهم (النجاشي الحارثي، ت: 40هـ 660م):
قُبَيِّلَةٌ لا يغدرون بذمّةٍ
ولا يظلمون الناسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
في قصة احتكام القبيلة المذكورة لدى (عمر بن الخطاب)، الدالّة على تغيُّر القِيَم وعدم ثباتها في المجتمعات. وهذا الفهم هو ما عوَّل عليه عمر في جدله مع قبيلة بني العجلان.
(وللحديث صلة).
(1) انظر: بيومي، محمد أحمد، (1981)، علم اجتماع القِيَم، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية)، 45.
(2) انظر في هذا: م.ن.، 9؛ 68 69؛ 209. محيلاً إلى: Werkmeister, W. H., Man and His Values, (Lincoln: University of Nebraska Press, 1967), P. 145; Pepper, S. C., The Sources of Value, (Berkeley: University of California Press, 1958), P. 7.
(3) انظر: م.ن.، 70؛ 72.
(4) يشير (م.ن.، 73) إلى عملين حاولا ذلك، هما: M. Margenau and F. Oscanyan, (A Scientific Approach to the Theory of Value(, The Journal of Value Inquiry, Vol. 3 (1969), No. 3, Rescher, (The Study of Value Change(, Ibid., Vol. 1 (1967), No. 1
(5) انظر: إبراهيم، زكريا، (1966)، الأخلاق والمجتمع، (القاهرة: مكتبة مصر)، 4 5. نقلاً عن: E. Durkhein: (Division du travail social(, Paris, P. U. F., 4e e'dition, p. XXXVII
(6) يُنظر في هذا: دوركايم، إميل، (1966)، علم اجتماع وفلسفة، ترجمة: حسن أنيس (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية)، خاصة: 67 106؛ (د.ت.)، التربية الأخلاقية، ترجمة: السيد محمد بدوي وعلي عبد الواحد وافي (مصر: دار مصر للطباعة)؛ (د.ت.)، قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة: محمود قاسم والسيد محمد بدوي (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية).
(7) تومبسون، ميكل؛ ريتشار إليس؛ آرون فيلد افسكي، نظرية الثقافة، ترجمة: علي سيّد الصاوي؛ مراجعة: الفاروق زكي يونس، (الكويت: عالم المعرفة)، 36 37.
(8) 1: 39.
(9) انظر مثلاً: وهبة، مجدي، (1974)، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان)، 152.
(10) (1944)، شرح ديوان زهير بن أبي سُلمى، صنعة: أبي العباس ثعلب (القاهرة: دار الكتب المصرية)، 30.

aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved