Culture Magazine Monday  05/11/2007 G Issue 221
فضاءات
الأثنين 25 ,شوال 1428   العدد  221
 

المساق 280
عُسر القراءة والحكي الفصيح!
د. عبدالله بن أحمد الفيفي

 

 

-1-

في دراسة سعوديَّة حول صعوبة القراءة لدى الأطفال، المعروف مصطلحها بالديسلكسيا Dyslexia، أعدتها الباحثة تهاني الصبحي من جامعة أُمِّ القُرى، ونَشَر عنها د. عبدالحفيظ خوجة، في صفحة (الصحة)، بصحيفة (الشرق الأوسط، ع10551، الخميس 18-10-2007، ص9)، خلصت النتائج إلى أن (الإدراك الصوتي ونظام الكتابة المضبوط بالشكل وغير المضبوط به يؤثِّر في أعراض هذا المرض).. إنْ عُدَّ مرضاً. وأن مظاهر عُسر القراءة في نظام الكتابة العربي لدى الأطفال الديسلكسيين الناطقين بالعربيَّة له علاقة وثيقة بالإدراك الصوتي، لا بدرجة الذكاء. كما (اتضح أن دقة قراءة المصابات بالديسلكسيا متوقفة على نوعية النظام الكتابي العربي المستخدم (مضبوطًا- أم غير مضبوط بالشكل)، وكانت لصالح غير المضبوط بالشكل في قراءة القِطَع، ولصالح المضبوط بالشكل في قراءة الكلمة المفردة).

ومثل هذه الدراسة هي في غاية الأهميَّة، لا على مستوى شريحة الأطفال المصابين بعُسر القراءة فحسب، بل أيضاً على المستوى اللغويِّ والثقافيِّ العربيِّ بصفة عامَّة، ولاسيما ما يتعلَّق منه بالنظام الكتابي، وعلاقته بالتعلُّم والقراءة. غير أن كثيراً ممَّا تتمخَّض عنه الدراسات العربيَّة من نتائج يظلُّ معطَّلاً عن الإفادة منه، أو البناء عليه، بما يفعَّله لكي يُسهم في تحريك الراكد، وإعادة النظر في إرث اكتسب في الأذهان قداسة أبديَّة، وليست له أي قداسة أصلاً.

ومع أني لم أطَّلع على تفاصيل دراسة الباحثة تهاني الصبحي- عدا ما نُشر عنها في (الشرق الأوسط)- فلقد لفتت نظري لعلاقتها بما أكتبه هنا عن مرضنا العربي الأكبر المتعلق بالازدواج بين العاميِّ والفصيح. واستدعت ما سبق أن أثرتُه في مساق بعنوان (تعليم الطفل العربي: من المسؤول؟)، (الاثنين 24 جمادى الآخرة 1428، العدد 206 من (المجلة الثقافيَّة))، إذ أشرت إلى ما اقترحتْه في صحيفة (الجزيرة)، الكاتبة نورة آل عمران، في مقال لها في (العدد 12572، الخميس 11 صفر 1428هـ، ص23)، تحت عنوان: (إنقاذ لغة الطفل)، ذاهبةً إلى أن (على وزارة التربية والتعليم أن تضبط التعميمات المرسلة إلى المدارس بالشَّكل؛ لتُسهم على الأقل في تفصيح لغة المديرات!) وكنتُ خلصتُ في ذلك المقال إلى أن الشكل أصوات لغويّة، وهي في لغات أخرى حروف هجائية، وتساءلت: تُرى لو صارت الحركات الإعرابيَّة والصرفيَّة جزءاً لا ينفصل عن بنية الكلمة العربية - ملزمةً للكاتب لزوم كتابة الحروف، بحيث يُعتدّ تركها خطأ إملائيّاً - أما كان ذلك سيربط ذهن الكاتب والقارئ والسامع بهذه القواعد، التي نظلُّ نتحدث عنها نظريّاً، ولا تظهر فيما نكتب أو نقرأ، إلاّ في الكلمات المعربة بالحروف؟ ولو حدث ذلك فإن قواعد اللغة ستصبح ممارسة فعليَّة، تُكتسب تلقائيّاً بالاستعمال.

غير أن ما يثير المساءلة - بوجه خاصّ - في دراسة تهاني الصبحي المشار إليها هو أن تخرج باستنتاج يذهب إلى أن (دقَّة قراءة المصابات بالديسلكسيا... كانت لصالح غير المضبوط بالشكل في قراءة القِطَع، ولصالح المضبوط بالشكل في قراءة الكلمة المفردة). إذ - يبدو لي- أن هناك حلقة مفقودة في تعليل هذه النتيجة، وهي نتيجة يمكن أن نجدها لدى معظم العرب اليوم، كباراً قبل الصغار، أسوياء ومرضى. وجميعنا مرضى بعربيّتنا! تلك الحلقة المفقودة تتمثّل في أن سهولة قراءة القِطَع غير المضبوطة بالشكل مردُّه إلى أنه يُعفي القارئ من الالتزام بالفصحى، صرفاً وإعراباً، فهو يعيث في الجملة كيفما اتفق، كما يفعل في عاميّته. وهذا أمر مشترك بين مستعملي العربيَّة الفصحى غالباً؛ لأنها باتت لديهم لغة أجنبية، لا يسمعونها إلا لماماً، فضلاً عن أن يستعملوها. وإنما المعيار هو النظر إلى سلامة قراءة القِطعة غير المضبوطة بالشكل، من حيث البناء الصرفي والنحوي، الذي عليه مدار الدلالة في الفصحى، تعبيراً وتلقِّياً، لا على مجرد لفظ الكلمات تباعاً.

فهل هناك، بالمقارنة، فوارق بين المصابين بالديسلكسيا وغير المصابين في هذا الأمر، أم أن نظامنا الكتابي العربيّ، إلى جانب طغيان المستوى الشفاهي العامي على ثقافتنا العربيّة - في البيت والشارع، بل وفي المدرسة والإعلام اليوم، علاوة على عيّ التعليم اللغوي - هو ما يجعل الجميع تقريباً في معمعة من الإعاقة اللغويَّة، يكاد لا ينجو منها حتى المتخصِّص في اللغة؟

-2-

وفي هذا السياق يمكن القول إن ممَّا يُمدُّ الكاتب بوقود الاستمرار في تحليل ظواهر كهذه ومناقشتها، ويُشعره بجدوى ما يفعل، أن يكون لما يكتبُ صدى لدى القراء، إيجاباً أو سلباً. ولقد سعدتُ برسالة من الأستاذة سُها جلال جودت، الكاتبة والروائية السوريَّة، حول ما كتبتُ هنا من مقالات عن اللغة العربيَّة، جاءت في شكل مقالة أرسلتها بعنوان (عباقرة فقه الحكي الفصيح)، أسوقها عنها كما وردت، غير مخفٍ اعتزازي بها: (أتابع مقالات الدكتور عبد الله الفَيفي، المتزن اتزان الذهب في ميزانه، ليس غرواً في الكلام، ولا نمطاً من أنماط المجاملة والتقريظ أسعى وراءها لكسب مصلحة ما.. ما أقوله محسوب عليَّ، ومحسوب أيضاً على غيري. إن في غيرة الفَيفي على مصالح الأمَّة الإسلاميَّة التي تدهورت منذ أن التبس الأمر على الناس فما عادوا يميزون بين الغث والثمين، ما يجعلني أقف عنده وقفة المؤيِّد. بحجة تطوير أدوات الحكي أثناء الكلام سعى بعضهم إلى إدخال كلمات غير صحيحة ولا تمتُّ إلى فصيحتنا بأي صلة، كما تسابق على هذا الأمر الذين انشطروا قسمين فيه: قسم مع الأصالة، وآخر مع الترويج لتحديث لغة الكلام، سواء العامية الدارجة أو الفصيحة الثابتة في أصولها ومشتقاتها ومعانيها ومستلزماتها العروضية.

ومن أسف غير مبالغ فيه أن كثيراً من الكتَّاب يقعون في مشكلات لغوية يندى لها الجبين؛ لأنهم غير مؤهلين للبحث ولا يهمهم من كتاباتهم سوى أن تُنشر، وحين تُنشر يكون الخطر محدقاً. كيف هذا؟ لا أحد يفكر بالجيل ولا أحد يرى أكثر من بُعد نظره، لهذا تجدني أشعر بالمرارة على حالنا وما آل إليه وضعنا العربي من تفكُّك، ومن سواد في مجالات حياتنا كافة، الاقتصادية التي ارتبطت بالعلاقات السياسية، والاجتماعية التي ارتبطت بقوننة العالم داخل قرية كونية عنكبوتية، ومظاهر الزيف والتبرج وأغاني الغربان العارية الصادحة مثل مزامير الموت.. لكن لا أحد يدري ما خطب هذه النهايات الحزينة؟ المصاب جلل، والعودة إلى صحوة الفكر والنفس تحتاج إلى ترويض روحي على الثبات في زمن الذبذبات المادية المريعة. صراعنا اليوم غير صراع الأمس، الثورات وأبطال المعارك أصبحوا مجرد أوسمة، ووظيفة الإعلام غير مجهزة لخوض حرب الثورة الفكرية الرقمية والورقية، إنها مجرد مؤسَّسات لقبض ثمن المحسوبيات، وكلنا يعلم أهمية الإعلام في تفجير أهم الثورات الفكرية ضد ما يضعضع من لغتنا ومن ديننا. ألم يحاولوا انتهاك حرمة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم برسوم ساخرة في الدانمرك؟

وثمة ملاحظة مهمة قد تثير حنق البعض، لا غيرتهم، على ما نطالب به: الذين يستلمون منابر الثقافة ومكاتب الإعلام هم بحاجة إلى دورات تخصُّصية في إدارة فقه اللغة العربية، لأنهم يمثِّلون قاعدة الهرم، فإذا كانت هذه القاعدة مشوَّشة لغويّاً، فلا عتبى على الجيل، ولا عتب على المتلقِّي الذي سترسخ في ذهنه مقولة هذا أو ذاك على جهله أنه أمام عباقرة فقه الحكي الفصيح. أكثر من أي وقت مضى نحن بحاجة إلى تضافر الجهود العربية كافة ومن كل الجهات لرفض المدسوس علينا ومنع تداوله بمقاطعته أو بمقاطعة من يتعامل معه مهما كانت النتائج.. وإذا كنت قد رأيت في مقالات الدكتور عبدالله الفَيفي ما حرك وجداني وأنطق كتماني فإني متفائلة في زمن بات التفاؤل فيه مجرد وهم أو أعجوبة غير معلن عنها، أن الصحوة ستكون كبرى ......).

ولا شك أن لمثل صوت الأستاذة سُها جودت أهميَّته هنا، إذ ليس بصوت القارئ البسيط، بل صوت المثقَّف المسؤول المعتدّ به. ولنا - في المساق الآتي، بإذن الله- لقاء مناقشة مع بعض ما طرحته الكاتبة الكريمة من أفكار.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة