الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 06th February,2006 العدد : 139

الأثنين 7 ,محرم 1427

إشكالية التراث

د. عبد الله الفَيْفي
... وإذا كان أحمد أبو دهمان قد وظّف في (الحزام) مفردات الميثولوجيا العربية، كالشمس والماء، في تعبيره الرمزي عن القضايا الإنسانية، كما مرّ في المساقات الماضية، فإنه في ذلك الجزء من نصّه المعنون ب(ذاكرة الماء) ينتقل إلى فكرة طقس الاستمطار في وثنية العرب، حيث كانوا يعلّقون السَّلَع والعُشَر بإذناب البقر وعراقيبها، ثم يشعلونها، بعد أن يصعدوا بها جبلاً وعراً، بينما يجأرون بالاستسقاء(1). وقد أشار (أميّة بن أبي الصلت)(2) إلى ما يبدو منه أن فكرة هذا الطقس عند العرب كان اعتقادهم الغريب باستعطاف الله على تلك البقر المحرقة، ومن ثم نزول المطر لإطفاء النار، ليغاثوا بسببها! فقال:
سَنَةٌ أزمةٌ، تُخَيَّلُ للنا
سِ، ترى للعضاهِ فيها صريرا
إذ يَسُفُّون بالدقيق، وكانوا
قبلُ لا يأكلون شيئاً فطيرا
ويسوقون باقر الطَّودِ للسهلِ،
مهازيل، خشيةَ أن تبورا
عاقدين النيران في شُكُرِ الأذ
ناب منها، لكي تهيج البحورا
فاشتوتْ كلها، فهاج عليهم،
ثم هاجتْ إلى صبيرٍ صبيرا
فرآها الإله تُرْسَم بالقطرِ،
وأمسى جَنابُهُمْ ممطورا
فسقاها نشاطَهُ واكِفُ النَّبْ
تِ، مُنَهّ، إذ وادعوهُ الكبيرا
سَلَعٌ ما، ومثله عُشَرٌ ما،
عائلٌ ما وعالت البيقورا
لا على كوكبٍ بنؤ، ولا
ريح جَنُوْبٍ، ولا ترى طخرورا
وقال شاعر آخر، منتقداً هذا الطقس:
أجاعلٌ أنت بيقوراً مسلَّعةً
ذريعةً لك بين الله والمطرِ؟!(3)
ذلك أن أبا دهمان يصوّر ممارسة طقسية شبيهة، يقوم بها حزام مع ثوره، حينما جفّت البئر؛ إذ يقول إنه: (خلع ملابسه كلّها، وبدا يحثو التراب على جسده الذي يشبه نبتة عرّاها العطش، واتّجه إلى الله متضرّعاً: يا إلهي اسقني. كرّرها ثلاثاً ثم عاد إلى جانب ثوره، وظلّ يهمس في أذنه إلى أن أتى المطرُ من كلّ مكان). (ص93). وربما كان هذا طقساً ظلّ معهوداً في القرية، يمتح من معين الميثولوجيا العربية العتيقة. غير أن ما يعني هذه القراءة هاهنا هو تأصيل هذه التوظيفات الأسطورية - الشعرية، التي كان يتوسّلها الكاتب للتعبير عن أفكاره، (من معدنها القديم).
ويتزامن (طقس الاستمطار) مع (طقس الختان)، ومع اجتياز اختبار الشهادة النهائية في المدرسة الابتدائية. حيث لم يكن لأهل القرية أن يصدّقوا قصة الاستمطار قبل أن يُصبح صاحبُها رجلاً، ولن يُصبح كذلك ما لم يجتز اختبار الختان، الذي يعبّر به الكاتب، من خلال بشاعة طقسه التقليدي، عن بشاعة طقوس التقاليد القروية في التخلّص ممّا يسمونه: (اللحم العار). هذا الطقس الذي يؤهّل صاحبه - كما ذكر حزام - إلى الرجولة الحقّة، وتَرْكِ الغناء السلبي المراهق، إلى الغناء للحقول. (ص93-95). وفي هذا المعترك التحوّليّ لم يكن يقف إلى جانبه سوى أخته ذاكرته وأُمِّهِ وقوس قزحه. تلك الأنوثات الثلاث التي تحمل لديه أعزّ ما يتمسّك به من القرية، بما ترمز إليه من أعزّ ما يتمسّك به من التراث. وباجتياز اختبارَي الختان والابتدائية الحاسمين، وتأهّله من ثَمَّ لتصديق نَبَئِهِ العجيب عن استمطار حزام، يتأهّل لمغادرة القرية نهائيًّا، والذهاب إلى المدينة، التي يحصل فيها مع زملائه على تواريخ ميلادهم لأول مرة. إنه انقطاعٌ يشبه الموت، كما قال، لا يقاومه إلا (بالماء الذي هو أصل القرية، والمرجع الأمين لذاكرتها، لتاريخها، لصراعاتها، لأسرارها، ولروحها أيضاً، كما يقول حزام). (ص96). هذا هو زاد رحلته إلى عالمه الجديد، والحبلُ السريّ الذي ظلّ يربطه بأُمِّه - القرية.
ومن نافلة القول إن على القارئ إزاء نصّ رمزي كهذا أن يتلبّث تأويليًّا إزاء كل كلمة فيه، رابطاً إياها ببنية المعنى الكلّيّ الكامن في باطن النصّ، بوصفه نصًّا شعريًّا، يصوّر تحوّلات قرية عربية إلى أجواء عصرها الحديث. إنه تحوّل أراد فيه حزام أن يزوّد بطل النصّ بوثائق تراث القرية قبل مغادرته إياها؛ ليضمها إلى تركة الجارة العجوز، التي سبق تملّكه إيّاها. أي أنه سيغادر القرية وفي جعبته تراثان: تراث أسلافه، وتراثٌ آخر نقيض، كان قد عبّر عنه عبْر تصويره شخصية الجارة العجوز.
وفي هذا المفترق يومئ السارد إلى وقوفه بإزاء ثلاثة حكماء: حكيمين منهم كانا منقسمي الرأي حول مضامين تراث القرية من الأفكار، وهما حزام وشخص آخر من القرية، كانت له أفكاره الموغلة في (حسّيتها)، فيما تتصوّره عن الكون والطبيعة. وكأنما الكاتب يومئ بهذا إلى ثقافة تراثية مغرقة في جاهليتها، تتمثّل في هذا الحكيم، تقابل ثقافة أخرى تتخفّف من ذلك الإغراق في النظر إلى المجتمع والطبيعة، كان يمثّلها حزام. وبمعنى آخر: ثقافة البقايا الجاهلية من التراث، وثقافة أخرى هجينة، تقع بين بين. وتلك حال مرّت به الثقافة العربية في (الجزيرة)، إلى عهد قريب من القرن العشرين، وتحديداً إلى نهوض الدولة السعودية الحديثة.
أمّا الحكيم الثالث، فيمثّل وافد الثقافة الغربية، وقد صوّره من خلال شخصية ذلك العائد من مملكة السويد مع ابنته، وما أحدثته حكاياته عن المجتمع الغربي، وحكايات ابنته أيضًا، وما جلباه إلى القرية من آلات - كانت أبرزها الساعة - ما أحدثه ذلك كله من ثورة (إبستملوجية) فكرية، جعلت القرية تستيقظ على (أن هناك عالماً خارج قريتها وما يحوط بها من قرى) (ص97)، قائلاً: إن هذا (مما هيّأ القرية نفسيًّا لرحيلنا نحن أولادها إلى المدينة). (ص98). ومع هذا فهو تهيّؤ جاء محفوفاً بحذرٍ وريبة، دفعا حزاماً إلى تزويد ابنه والبطل (السارد) ب(سروالين)، يحفظان عليهما شرفهما الجنسيّ والمالي! (ص99). وذلك في وقتٍ لم يعد مناصٌ من التسليم بغلبة رياح التغيير أو الهجرة، حتى لقد ضحّى أبو السارد بمعظم المبلغ الذي تطوّع أهل القرية له به للعلاج من فتق ألمّ به في سبيل رحلة ابنه التعليمية إلى المدينة. (ص98).
وفي المساق الآتي تتصل القراءة، إن شاء الله.
***
إحالات
1) ينظر: الأصبهاني، الراغب، (1961)، محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 1: 153؛ البغدادي، عبد القادر، (1979)، خزانة الأدب ولبّ لباب لسان العرب، تح: عبد السلام محمد هارون (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 7: 147؛ الآلوسي، محمود شكري، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، عناية: محمد بهجة الأثري (مصر: دار الكتاب العربي)، 2: 164.
2) (1980)، شرح ديوان أميّة بن أبي الصلت، شرح: سيف الدين الكاتب؛ أحمد عصام الكاتب (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 44-45.
3) الأصبهاني، الراغب، 1: 153.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved