الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 06th November,2006 العدد : 175

الأثنين 15 ,شوال 1427

مساقات
(مفهوم النصّ) لدى نصر حامد أبي زيد «4»
د. عبد الله الفَيْفي

إن مغالاة نصر حامد أبي زيد حسب كتابه (مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن)، (بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005)، في نظرته إلى أهمية السياق الخارجي لتقرير دلالة النص القرآني، والتنقيب عن المرويّات والأخبار التي تثبت ذلك، بل مسعاه إلى تقييد النص القرآني بها، ما تفتأ تتغافل عن طبيعة النصّ القرآني، لترتهنه إلى نطاق دلاليّ وثائقيّ محدود، متعلّق بحوادث جزئية من التاريخ، من العسير القطع بصحّتها.
وقد رأينا ملامح من ذلك في المساق الماضي، كان آخرها استدلاله بالآية الكريمة: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً) (سورة آل عمران، الآية 173).
وقوله إن نص هذه الآية: يمكن أن يكون مثالاً لعموم اللفظ وخصوص الدلالة، فليس من المُتَصَوَّر أن يكون لفظ (الناس) في هذا النص دالاًّ على (جميع الناس)، وإلا كان جميع الناس قائلين لجميع الناس إن (جميع الناس) قد جمعوا لكم، (ص107).
وقد أشرنا إلى أن التوقّف عند مثل هذه البدهيات، الموجودة في شتى اللغات، وفي مختلف مستويات التعبير، لا يُثبت شيئًا في قضية عموم اللفظ وخصوص السبب، وليس المتلقّي العاقل، فضلاً عن المتلقّي العارف بنواميس اللغة، في حاجة أبدًا إلى معرفة سبب النزول هاهنا، وأن لفظ (الناس) الأول إشارة إلى: (نعيم بن سعيد الثقفي)، ولفظ (الناس) الثاني إشارة إلى: (أبي سفيان) وأصحابه! ولا في حاجة إلى القول له: إن لفظ (الناس) لا يقتضي التوهّم بأن المقصود (الناس كافة)، بل ناس من الناس، ولاسيما لما يُعرف في العربية من أن (ال) التعريف تأتي للعهد، كما تأتي للجنس! وما تلك إذن إلا مماحكة استدلاليّة من خلال نصّ فهمه العربي الأميّ، ولم يشكّل لديه أي إشكال في الفهم؟!
والأغرب أن أبا زيد يُقرّ ضمن دليله ذاك نفسه بأن (بنية النصّ ذاته تؤكّد على خصوص مدلول (الناس) في كل لفظ من هذه الألفاظ، بحيث يكون القائلون غير المخاطبين غير الغائبين).
فما دام المدلول كامنًا في بنية النصّ ذاته، إلى يوم القيامة، فأي وجه يبقَى للاستدلال به على أنه لولا (السياق الخارجي سبب النزول) لضلّ الناس مفهوم النصّ؟! إلا أن أبا زيد سيُردف تناقضه هذا بغريبة أخرى، إذ يقول من فوره: (إن الألف واللام في كلمتي (الناس) ألف ولام الجنس (كذا)، ولكنها ألف ولام العهد التي لا تنكشف إلا بالعودة إلى أسباب النزول). (ص108).
وهذا يعني أن العرب الذين تنزّل الوحي فيهم، ومفسري القرآن الذين قاموا على دراسة النصّ القرآني ناهيك عن العجم من المسلمين كانوا سيظلّون يتصوّرون أن لفظ (الناس) في النص دالٌّ على (جميع الناس)، وأن (جميع الناس) قالوا ل(جميع الناس) إن (جميع الناس) قد جمعوا، لولا أن تداركتهم رحمة من ربهم بكشف هذا الوهم عن طريق اكتشاف سبب النزول، وأن لفظ (الناس) الأول إشارة إلى: (نعيم بن سعيد الثقفي) فقط، ولفظ (الناس) الثاني إشارة إلى: (أبي سفيان) وأصحابه، دون غيرهم من البشر!
هذا، وإن منهج نصر أبي زيد ليردّ على نفسه بنفسه من الناحية الإجرائية أيضًا، وذلك من خلال ما يقرّ به من: أن (معرفة سببِ نزول كثيرٍ من نصوص القرآن على سبيل القطع واليقين ليست دائمًا مسألة سهلة متاحة. فقد نجد روايات متعدّدة تطرح أسبابًا مختلفة لنزول آية بعينها). (ص108 - 109).
فما دام الأمر كذلك، فلا مجال للركون العلميّ إلى ما يكتنفه الشكّ والاضطراب والاختلاف. كيف لا، وقد تمّ في الصدر الأول للإسلام إهمال التدوين لما عدا النصّ القرآني، بما في ذلك تدوين المرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما دوّنت المرويات والأخبار بعد عشرات السنين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم، في عملية مضنية، لم تكتمل تقريبًا إلا في القرن الثالث الهجري. بل لقد ظلّت ميدان جدل، وتصحيح وتضعيف، إلى العصر الحديث.
إذ كانت قد سالتْ أودية المرويّات بقدرها ولا سيما منذ الصراع الأمويّ العلويّ ولأسباب سياسيّة وغير سياسيّة، ما دفع إلى محاولات واسعة لضبط تلك المرويّات وتنقيتها من غير الصحيح فيها أو الواهي، وذلك حسب شروط اجتهادية سنّها المصحّحون، على أسس منهجيّة رأوها مقاربة حسب زمنهم لتوخّي الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل إنه باستثناء السنة العملية التطبيقية كان هناك في الصدر الأول للإسلام التحفّظ، وأحيانًا التحذير والنهي الشديد، عن التكثّر من تلك المرويّات، أو كتابتها، اكتفاءً بالقرآن، وشواهد ذلك متعدّدة.
فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، مثلاً، فيما يورده (مُسْلِم)، في صحيحه، (شرح النووي، ج18)، قوله: ((لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن. ومن كَتَبَ عني غير القرآن، فليمحه!)). كما أورد (البغدادي، الخطيب، تقييد العلم، تح. يوسف العش (ط. دمشق: 1949)، 34، رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الأحاديث، فقال: (ما هذا الذي تكتبون؟)، قلنا: (أحاديث نسمعها منك). قال: (كتاب غير كتاب الله؟! أتدرون؟ ما ضلّ الأُمَم قبلكم إلاّ بما اكتتبوا من الكُتب مع كتاب الله تعالى)).
وجاء في (الذهبي، تذكرة الحفّاظ، (ط. الهند: 1333)، 1: 3): أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جمع الناس فقال: (إنكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشدّ اختلافًا، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئًا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله وحرموا حرامه).
وجاء فيه (1: 5)، رواية عن الحاكم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلّب، ولمّا أصبح قال: أي بُنيّة، هلمّي الأحاديث التي عندك، فبعثته بها فأحرقها. وقال: خشيتُ أن أموت وهي عندكِ، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدّثني، فأكون قد تقلّدتُ ذلك).
وكذا روى (ابن عبدالبر، جامع بيان العلم وفضله، (المطبعة المنيرية)، 1: 64-65)، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، أنه (طفق يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له، فقال: إني كنتُ أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قومًا قبلكم كتبوا كُتبًا، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا). إلى غير هذا.
فإذن لم تكن كتابة لغير القرآن في صدر الإسلام. وإذا كان هذا في مجال كتابة الحديث، فكيف بتسجيل الحكايات التاريخية المتعلقة بأسباب النزول أو غير أسباب النزول؟! ثم لو كان لذلك كله تلك الأهمية المصيريّة، التي أراد أن يُعوّل عليها نصر حامد أبو زيد في الوعي بالنصّ القرآني، وتحديد معناه وتقييد مغزاه، لما أُهمل تسجيله إهمالاً في تلك المرحلة التي كانت منطلق الدعوة بل لما غاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو صاحب الرسالة الخاتمة، والمكلّف، الأدرَى بضرورات تبليغها الكامل أن يأمُر، لا أن ينهى، بضرورة رصد أسباب النزول، وتدوين تلك الأسباب والحوادث جنبًا إلى جنب مع النص القرآني لتكون عليه مهيمنة، كما يبدو من مسعى أبي زيد اليوم، وبعد أربعة عشر قرنًا من تاريخ أُمّة القرآن! ولعلّ لنا عودًا إلى هذه المداخلات على كتاب (مفهوم النص)، في مساقات مقبلة، بإذن الله.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
فضاءات
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved