الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 08th May,2006 العدد : 152

الأثنين 10 ,ربيع الثاني 1427

مساقات
شعريّةُ القِيَم ( قراءة في خطاب حمزة شحاتة نموذجاً ) (3)

*د. عبد الله الفَيْفي :
رأينا في المساق الماضي خطابين متعارضين لدى (حمزة شحاتة) في محاضرته (الرجولة عماد الخُلق الفاضل): خطابًا عربيًّا صميمًا يرى (الرجولة عماد الخُلق الفاضل)، وخطابًا مقابلاً غريبًا عن ثقافته، يبدو عن آثار ثقافيّة حديثة، كأن يقول: (ونزيد قولنا وضوحًا فنقول إننا لا نرى معنى لنشوء الفضائل في الطور الأول من حياة الإنسان القديم) (1).
وقلنا إنه بهذا يُلغي خاصيّة العقل الإنساني، المهيّأ فطريًّا للنظر والتمييز، ليتبنى هنا ما يشبه رؤيّة نيتشه في نشوء الفضائل، كرؤيته شبه الداروينية في نشوء المجتمع البشري، وإلا فمصادره الثقافية، التي أملت عليه أن (الرجولة عماد الخلق الفاضل)، تقول قطعًا: إن الإنسان لم يكن حيوانًا في يومٍ من الأيّام، وأن الله علّم آدم الأسماء كلها من أول يوم، وأنه قد هداه النجدين.
كما أن تراثه يقول أيضًا إن حيَّ بن يقظان - على سبيل الرمز - تجاوز بإنسانيته تلك الضرورات التي يشير إليها شحاتة، زاعمًا أن الإنسان الأول ظلّ لا يختلف كثيرًا عن الحيوان في أنه يعيش للغذاء والغريزة، فهما دستوره الأوّل، حسب تعبيره، وإنما نشأت الفضائل في عصور متأخّرة (2).
فابن طفيل - كنموذجٍ للفيلسوف المسلم - يُعبّر في رسالته تلك عن خطاب نقيض تمامًا، يرى أن إنسانية الإنسان كفيلة بأن تتجاوز به تلك الضرورات الحيوانية إلى آفاق الفضائل والقِيَم العُليا، حتى في عُمْرٍ فرديّ لإنسان عاش في غابة، معزولاً عن المجتمع، مثل حيّ بن يقظان. وفي هذا دلالة على التذبذب لدى شحاتة في منطقية الخطاب، بين فلسفات قبسها من قراءاته المختلفة وتراثٍ تشرّبه ولم يستطع الفكاك منه.
وفي هذا السياق ذهب المؤلّف إلى تحليل القِيَم، ومنها: قيمة (الكَرَم)، التي قدّم عنها تحليلاً عميقًا، مقارِنًا قيمة الكَرَم بقيمة العِفّة، من حيث تمجيد الأولى أكثر من الأخرى؛ لما كان في الأولى من فضيلة متعدّية.
فالكَرَم كما يقول: (لم يكن في أول نشأته تضحيةً وإيثارًا، وغرامًا بالبذل، إنما كان- ولا يزال - دلالة افتخاريّة على اتساع نفوذ القوي، ومقدرته على مواصلة الجهد والإنتاج) (3).
كما أخذ يقارن الكَرَم بالبخل، ذاهبًا إلى أن:
(البخل فطرة رشيدة، تأخذ بحساب دقيق، وتُعطي بحساب أدقّ. وهو رمز للخوف، وما يعيب الإنسان أن يخاف إلا إن كان يعيبه أن يكون آدميًّا. (...) فإن كان الكَرَم شِعرًا وحماسًا، وخيالاً جميلاً، كان البخل حكمة وفلسفة وفهمًا عميقًا. والكَرَم يعطي ليأخذ والبخل اكتفاء... ونحن نراه أنانية محدودة قانعة، ونرى الكَرَم أنانية واسعة جشعة، همّها استرقاق النفوس والألسنة، وذيوع الفخار، وتحقيق المطامع، والاستمتاع باللذة الخفيّة) (4).
وهو تحليل صحيح في مجمله لقيمة عربية أصيلة، يقول عنها شحاتة (5) شِعرًا:
أرى الجُوْدَ خَلاّقَ المَزايا، وطالما
افتراها، ولولا جُوْدُهُ لم يَكُنْ مَعْنُ
إلا أنه لا يَلتفتُ في تحليله إلى تطوّر الدواعي الاجتماعية وراء قيمة الكَرَم، وأنها لم تكن في حياة العرب شِعرًا وحماسًا وخيالاً جميلاً فحسب، وإنما كانت قبل ذلك كله ضرورة اجتماعية في بيئة قاسية، وضمن بنية اجتماعية مفكّكة، وفي أوضاع اجتماعية تغلب عليها الفاقة والعَوَز.
ولذلك لمّا جاء الإسلام رشّد تلك القيمة ليُبقي على وظيفتها الإنسانية ويزيح شعريّتها المسرفة، فجاء الحديث النبوي في هذا الصدد:
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرم ضيفه، جائزته يومٌ وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحلّ له أن يثوي عنده حتى يُحرجه) (6).
كما شذّب من شعريّة هذه القيمة وهذّب من حماسيّتها حينما دعا إلى الاعتدال فيها ونهى عن السَّرَف، في مثل قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (7)
وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (8). فالقِيَم إذن هي أدوات في الجهاز الاجتماعي، تتطوّر بتطوّره، وتتغيّر بتغيّره، وليست بأفكارٍ مجرّدة، ليُنظر إليها - كما فعل المؤلّف - بمقياس ذهني ثابت، بقطع النظر عن الزمان والمكان.
وثبات القِيَم هذا هو مذهب طائفة من قدماء الفلاسفة، ك(سقراط) و(كانت)، وكانوا ينطلقون في مذهبهم هذا من وحدة الطبيعة والعقل البشري وقد كان (شحاتة) من الحفيّين جدًّا بقراءة أولئك الفلاسفة وتدارس أطروحاتهم مع أصحابه (9).
على حين يرى الفلاسفة المحدثون - ومنهم فلاسفة المذهب التجريبي الوضعي - أن الأخلاق جزئية ونسبية ومتغيرة (10) كما يرى علماء الاجتماع المحدثون أن القِيَم في مخاض تحوّليّ دائم، وتطوّر تاريخيّ مستمرّ، وصراع وتداول (11).
ولئن كان شحاتة قد قدّم في تحليل قيمة الكَرَم إشارات عابرة إلى تطوّرها، وإلى ما كانت تُؤدّيه من وظيفة في المجتمع، فقد انتهى به الأمر إلى محصّلة تجريديّة، رأت أن (البُخل إن كان رذيلة فهو رذيلة لازمة، إن كانت شرًّا في ذاتها، فليست شرًّا على غيرها) (12) والحقّ أن البخل، بمعناه الحقيقي - لا المبالغ في تأوّل معناه كالمبالغة في تأوّل معنى الكَرَم - شرٌّ على صاحبه وعلى سواه من الناس، بل هو مرضٌ يُؤذي صاحبه قبل غيره، ويحرمه قبل حرمان الآخرين.
فكيف يُجرّد عن حقيقته النفسية والاجتماعية، إلاّ في رؤية مجرّدة، لا تربط القِيَم بجذورها في البنية النفسية والاجتماعية، وفق نبرة شعريّة، تشاؤميّة في تقييمها للمجتمع، تتردّد أصداؤها أيضًا في ديوان شحاتة (13)، في نحو قوله:
والمروءاتُ تقتضي بمساعي ال
جُودِِ صيتًا - على الرِّياءِ -
والعِباداتُ ترتَديْ مَظْهَرَ الخَي
رِ ونفعا على أَفْظَعِ المناكرِ دِرْعا

aalfaify@hotmail.com

***
إحالات
1- شحاتة، حمزة، (1981م)، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، (جدة: تهامة)، 38
2- يُنظر: م.ن.، 38- 39
3- م.ن.، 70
4- م.ن.، 71
5- (1988م)، ديوان حمزة شحاتة، (الطبعة الأولى: ؟)، 174
6- البخاري، (1981م)، صحيح البخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا (دمشق، بيروت: دار القلم)، 5: 5784 (باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه).
7- سورة الإسراء، آية 29
8- سورة الفرقان، آية 67
9- يُنظر: ضياء، عزيز، (1397هـ)، حمزة شحاتة: قمّة عُرفت ولم تُكتشف، (الرياض: دار الرفاعي)، سلسلة المكتبة الصغيرة برقم21، عن: شحاتة، م.ن. المقدمة، 16-20
10- يُنظر: فارب، بيتر، (1983م)، بنو الإنسان، ترجمة: زهير الكَرَمي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)،10-11
11- ويُنظر مثلاً: مانهايم، كارل، (1968م)، الأيديولوجيّة والطوباويّة: مقدمة في علم اجتماع المعرفة، ترجمة عبد الجليل الطاهر (بغداد: مطبعة الإرشاد)، 165- 166
12- شحاتة، الرجولة عماد الخُلق الفاضل، م.ن.
13- ديوان حمزة شحاتة،51
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved