Culture Magazine Monday  09/07/2007 G Issue 206
فضاءات
الأثنين 24 ,جمادى الثانية 1428   العدد  206
 

مساقات
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

أشرنا في مساق سابق إلى أن اللغة العربية الفصحى توشك أن تكون اليوم لغة أجنبية في العالم العربي، فلماذا لا تُعلّم كما تُعلّم اللغة الأجنبيّة؟ لماذا لا نحذو حذو الأُمم في تعليم لغاتها، محادثةً وكتابةً، إذ تربط النظريّة بالتطبيق، بل تعتمد على الاستخدام قبل التقعيد؟!

لنعدّ اللغة العربيّة- جدلاً- لغة أجنبيّة، كالإنجليزيّة- التي نعتزّ اليوم بتكريسها لغة حياة وعمل- أو الفرنسية، أو الإسبانية، فكيف تُعلّم اللغات الأجنبيّة في كل العالم؟

ألم يأنِ للعرب أن يَعُوا ما اللغة في حياة البشر والشعوب؟! ألم يأنِ لهم أن يُدركوا أن اللغة استخدام وتطبيق لا نظريات وهلوسات قواعديّة؟!

إذن، ما للتربويين، من المعنيين بالأمر، لا يرون- وبعضهم قد تعلّم لغةً أخرى- كيف تُعنى الأمم بتعليم لغاتها، محادثةً وكتابة، إذ تربط النظرية بالتطبيق، بل تعتمد على الاستخدام قبل التقعيد!

تُرى- مثلاً- لماذا تُصبح المهارات الكتابية فَضْلةً في مدارسنا؟

لقد اقترحت إحدى كاتبات (الجزيرة)، الأستاذة نورة آل عمران، في مقال لها في (العدد 12572، الخميس 11 صفر 1428هـ، ص23)، تحت عنوان: (إنقاذ لغة الطفل)، ربط الأهداف النظريّة العُليا للأمّة بالتطبيق. وتبدو الكاتبة معلّمة، تتحدث من الميدان، مدركةً واقع الحال أكثر من غيرها. وفي رأيي أن مثل هذه الأقلام- المقتدرة على الكتابة والنقد البنّاء- حريّة باستكتاب (الجزيرة)، وبشكل مستمر. لقد ذكرت الكاتبة أن تعميمات وزارة التربية والتعليم لالتزام المعلّمات باللغة العربيّة مع فَرْض درجات على ذلك، لن يُجدي نفعًا، ما دام المسؤول أو المسؤولة عن التنفيذ غير مؤهَّلَين أو ملتزمَين! كما ألمحتْ في ذكاء وسخرية، إلى قضية القضايا في لغتنا العربية، حين قالت: (على الوزارة أن تضبط التعميمات المرسلة إلى المدارس بالشَّكل، لتُسهم على الأقل في تفصيح لغة المديرات!) وهنا إشارة إلى مُشْكِل لغويّ، يُسهم في ضعف أجيال اليوم في اللغة العربية. ذلك أن اللغة العربية لغة إعرابيّة، يتحدّد موقع الكلمة فيها عن طريق حركة إعرابها، رفعًا ونصبًا وجرًّا، كما أن بناء المفردات الصرفي قائم في جانب منه على الحركات. غير أن هذه الحركات ظلّت مهملة في الكتابة العربية. وبلمحة تاريخية فإن الكتابة العربية مرّت في تطوّرها بمرحلة كتابة الحروف المجرّدة من النقط والشكل، ثم جاء نقط الحروف، وتلاه الضبط بالشكل، إلاّ أن هذا الإجراء الأخير بقي فضلة غالبًا وزينة في الكتابة العربية، عدا كتابة المصحف الشريف. مع أن هذه الحركات أصوات لغويّة، وهي في لغات أخرى حروف هجائية. بيد أن تطوّر الكتابة العربية قد تجمّد منذ مئات السنين، وكأن تلك الكتابة التي وُرثت عن مراحل حضاريّة بدائيّة قد اكتسبت قداسة نهائية- ضد المسّ أو التطوير- تدفع ثمنها الأجيال!

إن السؤال الذي تقترحه مقالة الأخت نورة آل عمران- وإنْ بأسلوب غير مباشر- هو الآتي: تُرى لو صارت الحركات الإعرابيّة والصرفيّة جزءًا لا ينفصل عن بنية الكلمة العربية- ملزمةً للكاتب لزوم كتابة الحروف، بحيث يُعتدّ تركها خطأ إملائيًّا- أما كان ذلك سيربط ذهن الكاتب والقارئ والسامع بهذه القواعد التي نظل نتحدث عنها نظريًّا، ولا تظهر فيما نكتب أو نقرأ، إلا في الكلمات المعربة بالحروف؟

أزعم أن هذه لفتة مهمّة جدًّا تبعث على إعادة النظر في المأزق الكتابي (الإملائي- النحوي) ضمن جذره القديم الذي لا نلتفت إليه. ولو حدث ذلك فإن قواعد اللغة ستصبح ممارسة فعليّة تُكتسب تلقائيًّا بالاستعمال. يُضاف إلى هذا مقوِّم آخر غائب في مناهجنا، وهو: المحادثة باللغة العربية الفصحى. فأين نصيب (المحادثة) بالفصحى في حصص الدراسة، على غرار ما يتلقّاه طالب اللغة الأجنبية، فيما يسمى:(التواصل (Communication)؟

أم هل سننتظر حتى تُصبح الفصحى لغة الشارع لنجعل في حصص اللغة العربية (حصة محادثة وتواصل)؟!

وماذا عن (الخطابة)؟ أو المسرح المدرسي؟

لا شيء من ذلك كله يُذكر في مناهجنا التطبيقيّة، وإنما هو فاعل ومفعول، وبينهما طالب حائر ضائع، لا في العير ولا في النفير!

كم هو محروم الطفل العربي من التعلّم الطبيعي للغته؟!

مع أن الوسائل المشار إليها بدائية بداهية، لا تتطلب كثير حذلقة، ولا وزارات تربية وتعليم، ولا تطوير مناهج! ولقد كانت قديمًا مطبّقة في الكتاتيب، فخرّجت أجيالاً لا يكادون يَلْحَنون، وإن لم تخرّجهم نحاة يلوكون ألسنتهم بالقواعد. وتلك الوسائل البدائية مطبّقة الآن في أرقى معاهد تعليم اللغة في العالم، وكان يمكن عن طريقها أن يصحّ شيء في أداء التعليم نحو العربية، أهمّ من القواعد ومحفوظاتها الرياضية.

غير أن هناك إشكالاً آخر لا يقل خطورة في احترام الطفل العربي لغته. وهو : كيف له أن يقتنع بما يتلقّاه في المدرسة ويقرأه في الكتب، وهو يرى جُلّ الاحتفاء والتمجيد، اجتماعيًّا بل رسميًّا، يدور في فلك العاميّة، في الإعلام، والفن، والمهرجانات، والفضائيات! بل إن الاحتفاء بالعاميّة قد بات يغزو مدارسنا أيضًا، فالقصيدة النبطيّة تربّعت في البرامج الاحتفالية لبعض المدارس مؤخرًا، ازدواجًا لغويًّا وأدبيًّا، مرهصًا لما بعده، حتى لا يُحرم الجيل الصاعد من معمعة الشتات اللغويّ والأدبيّ. وفي هذا المضمار كذلك فوجئ الحفيّون بشأن إحياء اللغة العربية ودعم مواكبتها العصر- وبعد ردح طال من الحُلم بإنشاء مَجْمَعٍ واحد للغة العربية في منطقة الخليج، على غرار مجامع اللغة العربية في مصر وسوريا والعراق والسودان وغيرها- بافتتاح القرن الحادي والعشرين بتدشين فضائيات عاميّة شتّى، تملأ نبطيّاتها الدنيا، وتضيق برغائها الآفاق!

إن طفل الأمس- أي قبل أن يمنّ الله على العرب بنعمٍ ظاهرة لم يحسنوا توظيفها- كان يشكو فقط الازدواج اللغوي بين مستوى لغة الشارع والمنزل من جهة، واللغة الرسمية في المدرسة والإعلام من جهة أخرى. أمّا اليوم فقد ازدادت الهوّة هوّة، حينما مُنحت اللهجات العربية شرعيةً رسميّة، فاحتلت الساحات، هنا وهناك. إذ لم يقتصر الأمر على اختزال تراث الأمة في حفظ تلك المأثورات التي تعود إلى عقود مضت من عصور انحطاط الأُمّة لغويًّا وثقافيًّا- ولدى أجيال أُمّية معذورة- لم يقتصر الأمر على حفظ تلك المأثورات، بزعم قيمتها البحثية التاريخيّة، بل أمسى الاتجاه على قدم وساق نحو الاستمرار في هذا الأدب المحكي، إلى ما شاء الله، حتى وإن كان أصحابه محسوبين في النخبة والمتعلّمين!

وهكذا غزت اللهجات كل المنابر التي لم يكن لها قِبَل بها من قَبل، فغدت تكتسح المطبوعات، وسوق الكِتاب، والصحف، والمجلات، والجامعات، والإذاعة، والتلفاز، والإنترنت، والفضائيات. حتى لقد أصبح بعض خطباء الجُمَع، والوعّاظ، والدعاة الدينيين، وشيوخ الأزهر، لا يرون بأسًا في استخدام العاميّة، بل السوقيّة منها، بحجة التحبّب إلى الناس وكسب الجماهيريّة، وكأن اللغة ليست بجزء مما يدعون الناس إليه منذ نزل كتابنا بلسان عربي مبين غير ذي عوج، فصاروا يدعون الناس كما يفعل الداعية الهندي أو الفارسي حينما يستخدم لغته الميسورة، لإيصال الفكرة لا الكلمة. فهل صار الإسلام أفكارًا مستقلة عن اللغة؟ ما هكذا الدين الإسلامي، بل هو دين لغة! لِمَ يضاهئ هؤلاء إذن من يكتبون في مواقعهم على (الشابكة) حول الإسلام أو القرآن، فتراهم يتعمّدون الخطأ اللغوي، وتكسير الجملة نحويًّا، لا جهلاً، ولكن إدراكًا بأنهم بذلك يحاربون الإسلام من عقر داره: اللغة العربية: (طالع: موسوعة تاريخ أقباط مصر: نموذجًا). أمّا إقامة المناسبات، والمسابقات، والاحتفاليات، فحدّث ولا حرج! وبذا باتت تُتوّج الأُمّية تاج العروبة، وتُلبس وشاح التراث والتاريخ والثقافة، وتُمنح بيننا القِدْح المعلّى في شتى الميادين، وبمناسبة وبغير مناسبة! فما نتيجة هذه الفوضى العارمة في دنيا العرب؟ ذلك ما سيتطرق إليه المساق المقبل إن شاء الله.

* عضو مجلس الشورى aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة