الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 10th July,2006 العدد : 161

الأثنين 14 ,جمادى الثانية 1427

مساقات
(القصيدة- الرواية) وخاصيّة القفزات الشعريّة
د. عبد الله الفَيْفي

في قراءتنا السالفة المنشورة هنا في (الحزام) لأحمد أبي دهمان - التي تعثّرت بجملة اعتراضية من مساقات حول بعض (المفردات اللهجية الجنوبيّة)، ثم حول (القراءة النقدية في خطاب حمزة شحاتة) التي قدّمت في ندوة (قراءة النص) بنادي جدة الأدبي الثقافي- كنا قد توقفنا لدى الفصل المعنون في (الحزام) ب(الخروف والكاتب)، (ص127- 148).
وذكرنا أن ذلك الفصل، على طوله، يبدو حشوًا في النصّ، لا يتّسق وبنيته الكلّية، حسب تأويلها الذي حاول الدارس طرحه في تلك القراءة.
ذلك أن أبا دهمان - وإنْ حاول تضمين الفصل المذكور إلماحات إلى تلك المفارقات الثقافية بين القرية والمدينة - ما يلبث أن يلجّ في استطرادات حكائية وخرافية لا تنمو بأحداث النصّ، مع استغراقها منه أكثر من عشرين صفحة.
هذه الصفحات ليس فيها إلا أنّ أولئك الفتية، بمن فيهم السارد - وبعد أن عادوا إلى المدينة وشعروا بالغربة والوحشة - اتخذوا نزلهم الذي كانوا فيه قرية بديلة، كاتبين اسمها على جدار البيت الخارجي، حاملين سكاكينهم وأحزمتهم بعد العودة يوميّاً من المدرسة. كما أنهم، للتعبير عن استقلالهم عن المجتمع، قرّروا أن لا يُصَلُّوا مع جيرانهم في المسجد ذاته بل يقيموا صلاتهم مستقلّين.
وهذا الشعور بالاغتراب وعدم الانتماء لم يكن لأنهم قرويّون فحسب، ولكن لأنهم أيضاً صغار سنٍّ في عيون الآخرين.
ثم يحكي بعدئذ في ذلك الفصل قصة أحد أصدقائه، عاد يومًا مجرّداً من سكينه؛ لأن جارهم قد استولى عليه حين وجده يتحدّث إلى ابنته. ويمضي في سرد ذهابهم إلى ذلك الجار، وإعادة السكين والحزام إليهم من قِبَل زوجته. ومن ثَمَّ نشوء علاقة بين الفتى صاحب السكين وتلك المرأة، حين راودته عن كتابة رسائل لها، ليصبح معروفًا من بعد بأنه كاتب الحيّ لسائر النساء.
وبذلك عاش ذلك الصديق عيشة يوسف لدى عزيز مصر، وكانت حاله مع نسوة الحيّ كحال يوسف مع النسوة اللائي قطّعن أيديهنّ.
وكاتب الحيّ ذاك يشير بالفعل إلى أن منزل تلك المرأة كان اسمه (مصر)، ويحكي حكاية خرافية أخرى حكاها لتلك المرأة عن مصر. إذ زعم أن فرعون - وأصل اسمه: (عون) - كان يعالج النساء بالسحر في قرية (مصر)، ففرّ لما شعر بالتهديد بقتله، فسُمي (فَرَّ عَوْن)، ليلتقي في طريقه بتاجر مهاجر من جنوب الجزيرة، اسمه (هامان). وقد عرف كل منهما للآخر قدرته على السِّحر و(التعمية)، فصارا - كما قال السارد - (رجلاً واحدًا). فقدما بسحرهما أرض مصر، ثم بحيلة استطاع فرعون أن يستولي على المُلْك هناك.
ومن خلال هذا يشتقّ الكاتب عنوان هذا الفصل (الخروف والكاتب)؛ فلقد كان أصدقاء كاتب الحيّ خرفاناً من وجهة نظره؛ لأنهم قد انصرفوا إلى دروسهم وانصرف هو إلى كسب المال والمودّة بكتابة الرسائل للنساء؛ ولذلك كان رجلاً حقيقيّاً وكانوا محض خِرفان، وهو ما كان يراه فيه أهل القرية أيضاً ويرونه فيهم؛ لأن مقاييس النجاح لديهم هو: الفحولة و(الفلوس)، لا غير.
فهل كان الكاتب يريد فقط أن يقول إن عالم النساء في المدينة يختلف عن عالم النساء في القرية، اختلاف مجتمع النفعيّة والإغواء عن مجتمع الإيثار والحفاظ؛ إذ لا مكان لكاتب في قرية، كما قال؟ وهل كان الأمر يقتضي منه كل تلك التهويمات والاستطرادات، لولا أنه لا يكتب رواية نثرية وإنما يكتب (قصيدة - رواية)؟!
على أن هذا الفصل قد تضمّن لقطات أخرى من سيرة البطل، كعودة الأب بعد إجراء العملية، وتجربة السارد ذبحَ الخروف نيابة عن أبيه في عيد الضحيّة لأول مرة؛ إذ ذَبَحَ الخروفُ الخروفَ! ثم ما يحكيه عن مشكلة الأب في فقدان ثَوْرِه وقراره بيع خنجره الثمين كي يشتري ثوراً، وما واجهه من ذلك القريب المهاجر إلى المدينة - وهو نفسه الذي كان قد لجأ إليه البطل من قبل - من موقف سلبي، قابله موقف إيجابي لأحد أبناء القرية المُسْتَجْدِيْن للصَّدَقات من العاصمة، بما يؤكّد الصورة النمطية عن أبناء القُرَى النُّبَلاء مقارنة بأبناء المُدن النفعيين.
وهكذا فإن هذا الفصل، أو معظمه على الأقل، لو حُذف من الرواية لما اختلّ بناء السرد في نص (الحزام)، لولا أن الكاتب قد أقحم فيه تسجيل بعض الحكايات الشعبية، والتنويه بجذاذات متفرقة من الأعراف والعادات التقليدية، دون أن ينتظمها رابط في كثير من هذا الفصل.
ولا تعليل واضحاً لهذا سوى أن الكاتب لم يكن يراقب تطوّر نصّه حَدَثِيًّا، كما يفعل كاتب رواية، بل هو - كأسلوبه بعامّة - يقفز قفزات شعريّة مفاجئة وسريعة، ليرسم لوحات ولقطات، وفي ذهنه إنجاز عمل أشبه بقصيدة، بنسبيّة ما يكون بين وحدات القصيدة الشعرية من علاقة.
وهكذا يبدو أن الترهّل في ذلك الفصل كان هدفه إطراف القارئ بتسجيل مقتنيات الذاكرة القروية، أكثر من اقتضائه في نسج روائيّ.
وينتهي المطاف بما يواجهه البطل من تمزّقٍ أسريّ، نتيجة انتقال أُمّه إلى بيت آخر، وتزوّج أبيه بامرأة أخرى، وزواج أخته، وفراق حبيبته (قوس قزحه) مخطوبةً، حتى لم يبق إلى جانب البطل إلا حزام و(الصخرة/ الذاكرة):
(اختفتْ القرية، ولم يبق لي إلاّ حزام، الذي اصطحبني نحو الصخرة الكبيرة التي كُنّا ندعوها (الذاكرة)، وهي الصخرة الوحيدة التي كانت تتوّجها نبتة نادرة يرويها حزام كل مساء.
بالقرب من هذه الصخرة تدفن النساء عذاباتهنّ، وهكذا يفعل الشعراء.. ورأينا أبي وأُمّي وأُمّ قوس قزحي آتين من بعيد. وضَعَ حزام يدًا على رأسي، والأخرى على الصخرة. الصخرة الذاكرة. ولم أر الشمس تشرق بعد ذلك اليوم. ولكنني كنتُ قد تركتُ القرية حاملاً معي سرّي الذي لا أبوح به إلاّ لصورة أبي.(ص157).
وفي هذا ترميز إلى فقدان الماضي، بذاكرته، وإشراقه، وخصبه.
إنه فقدان الأمل، والانقطاع عمّا قبل إلى ما بعد، وصولاً إلى خاتمته في باريس، وتحوّل التراث إلى كتاب بالفرنسية، يلقي عليه حزام نظرة شوق، ويسعد حينما يرى البطلَ - وهو يقرأ مقاطع من النصّ من اليسار إلى اليمين - (يرى العالم من طرفيه).
ثم يعقب ذلك مرض حزام، آخر خيوط الذاكرة، وحامل ضمير القرية. تلك الشخصية التي صارت عنوان العمل، وليست بشخصية سرديّة، بل هي معنى شعري، يعني الأصل، والقرية، والأصالة، والذاكرة، والتراث.
وفي المساق الآتي نستكمل القراءة، إن شاء الله.
مرفأ:
يا كُلَّ شعري إنْ تناثرتِ الرُّؤَى
يا كُلَّ نثري في القصيدِ المُحْكَمِ


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved