Culture Magazine Monday  11/06/2007 G Issue 202
فضاءات
الأثنين 25 ,جمادى الاولى 1428   العدد  202
 

(فِتْنَة)):البيئة والثقافة (6-7)
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

ذكرنا في المساق السابق أن شخصية فِتْنَة - بطلة رواية الكاتبة أميرة القحطاني، بعنوان (فِتْنَة)، (بيروت: دار العلم للملايين، مارس 2007)- لم تكن بِدْعًا في التروّي بتلك الأفكار الشائعة، التي لا تخلو من مصادرات اجتماعية وتعميمات شعبيّة، كما تجلّى في تطرّقاتها لوصف بيئة عسير، مجتمعًا وثقافة. مشيرين إلى حقيقة أنه مهما بلغتْ نِسَب الاختلافات الفعليّة بين عادات القبائل في الجزيرة والخليج، فإنها تظلّ متقاربة إجمالاً، بما هي تمتح من أصول إرثيّة واحدة، مغرقة في القِدَم، ومن ثقافة عامّة مشتركة. فالمرأة - على سبيل المثال - ونظرة المجتمع إليها، لا تختلف كثيرًا، إلا ظاهريًّا، في مختلف أجزاء الجزيرة، إنْ لم نقل في مختلف بلاد العرب. إذ ما الذي يَحْكُم غالبيّة سلوك المجتمع العربي في النهاية؟ إنه، على حين تَحْكُم أُمم الأرض دساتيرُ وقوانين مُعلنة، ما برح العرب، منذ أربعة عشر قرنًا، يراعون بعض الأعراف القَبَليّة، التي يمكن لها بكل بساطة أن تعلو على منطق الإسلام والعدل والعقل والحُريّة. حتى ليَظْهَر - على سبيل المثال - من يعلنها صراحة، وبعد تلك القرون: لا نستطيع الآن تجاوز ما وجدنا عليه آباءنا، لكن دعوا التقاليد للزمن! فأيّ عقلية مزمنة تَحْكُم حياتنا جميعًا؟! بل لقد ظهر في مجتمعاتنا على مرّ العصور من يشرعن تلك الأعراف والعادات والتقاليد، ملتمسًا أسلمتها ما وسعه الالتماس والأسلمة، وَفْقَ فِقْهٍ قَبَليّ بحت! وما التفريق، مثلاً، بين زوجين - وبعد سنوات من الزواج وإنجاب الأطفال وتكوين الأسرة - بحُجةِ اكتشافٍ متأخّرٍ لاختلال بينهما في تكافؤ النسب، إلا برهان على طبيعة الحاكم الفعليّ في حياتنا الاجتماعية، إن للمرأة أو للرجل. ذلك أن الإنسان لم تَسمح له الأعراف أن يكون كما أراده الله، حُرًّا، مكلَّفًا، مسؤولاً، مثلما وُلد، وكما سيأتي الرحمن فردًا، لا يزر وزر غيره.. كلاّ، وإنما هو رأس من قطيع، يسيّره ويقرّر مصائره، رغم أنفه، أو كما قال أحد المنظّرين لدمغ المجتمعات الحديثة بمنظومة القُطعان: إن الزواج هنا ليس بين اثنين، بل بين قبيلتين! مرحا! تلك همجيّة العادات القَبَلِيّة، وسُلطتها الجائرة التي ما انفكّت تعلو ولا يُعلى عليها، يرضخ لها الناس ويُذعنون ويستسلمون، ملغين عقولهم وإنسانيتهم، رضاءَ فِكْرةٍ ما أنزل الله بها من سلطان! ذاك إرث العرب الحيّ إذن، هم فيه سواسية كأسنان الحمار! غير أنه على الرغم من ذلك الإرث المشترك فقد ظلّت العزلة المجتمعيّة في الماضي تغذّي المخيّلة الشعبيّة بمثل ما تناثر عن لسان فِتْنَة، من اعتقاد فوارق جذريّة هائلة بين القبائل والمناطق وعاداتها وتقاليدها، فهؤلاء أفضل وهؤلاء أسوأ، وعلى أُسس قَبَلِيَّة، أو مناطقيّة. وذلك التصوّر الاجتماعي لا يقتصر أحيانًا على توهّم اختلاف الأعراف الاجتماعية وحدها، بل قد يصل إلى تخيّل تمايز بين البشر أنفسهم، بوصفهم عناصر ذات خصائص متباينة. ومن ثمّ، فما تلك الأفكار النمطيّة عن فروق اجتماعيّة إلاّ رواسب نفسيّة وتصوّريّة، متوارثة بدورها، أكثر من تعبيرها عن فروق موضوعيّة، فيما لو قيست على محكّ البحث الاجتماعي. بيد أنه، إذا كان هذا مُسَلَّمًا في الماضي، لعوامل العزلة بين الشعوب والقبائل، أفما آن لانفتاح المجتمعات في الراهن أن يمحو بقايا تلك الترّهات والخيالات السلفيّة؟!

وبالعودة إلى شخصيّة فِتْنَة، التي تقمّصت ذلك الإرث بقضّه وقضيضه، يُلحظ أنه قد قام - إلى جانب نمطيّة الأفكار التي عبّرت عنها - عوامل أخرى في بنية شخصيّتها، تمثّلت في اضطرابها النفسيّ، وغربتها الاجتماعيّة، ورفضها، و(لا انتمائها)، وهي عوامل قمينة بأن تجعل رؤيتها للعالم بتلك الصورة الشائهة. لولا أن الكاتبة، وقد أنطقت فِتْنَة بما نطقتْ، قد وَقَفَتْ لتجعل منها ضحيّةَ واقعٍ، ومعبّرةً نهائيّة عنه، في الوقت نفسه. صحيح أنّ مَنْحَ الشخصيّة حريّتها في التعبير عن طبيعتها أمر صحيّ من الناحية الفنيّة، بيد أن الشخصيّة هنا قد بَدَتْ تُعاني أكثر من ذلك، من حيث جُعلت بمثابة جسرٍ لأفكار الكاتبة ومواقفها.

وعلى الصعيد الثقافي - ومن خلال المقارنة بين قَطَر وعسير - ترسم شخصيّة فِتْنَة صورة متباينة بين الحضارة والعلم من جهة والتخلّف والجهل من جهة مضادّة. حتى إن طبيب العيادة البائسة في عسير ليقول لها، حين عرف أنها قادمة من قَطَر:

- يا بختك يا ستي.. وإيه اللي رماكِ هنا؟

- جيت ازور والدي.

- خذيه وروحي قَطَر أحسن لك.

- ليه يا دكتور؟ الدّيرة حلوة.. بس أنت فاهمها خطأ.. إلاّ بالمناسبة من وين أقدر أشتري (صمون أو سلايس)؟

- دنتي بتحلمي أنتِ في صحراء ما يعلم بيها إلا الله! (ص68).

وكأن عسير (صحراء.. ما يعلم بها إلا الله)! وكأن استخدام (صمون أو سلايس) صار معيار التطوّر، ولو وجدا باسمي (فطيرة أو شريحة) - فضلاً عن أن يكونا منتجًا محليًّا، فَرَضًا - فلا إشاريّة فيهما على الموقع الحضاري عندئذٍ، ذلك الموقع الذي لا يتحدّد - بحسب التبعيّة النمطيّة - إلا بعلامات لُغويّة، غير عربيّة بالضرورة! وإلى جانب هذه العقليّة (الإيديو - لغويّة) التي يحملها خطاب النصّ، فإن إشكاليّته - كما مرّ - تتمثّل أيضًا في أنه يُسقط على منطقة كاملة أشياء ربما صدَقَتْ في نقطة منها، دون أن يُسمّى المكان الذي ينعته أو يصفه، ممّا يَسِمُ البيئة الروائيّة بملامح تعتيم وتعميم. من حيث كان القارئ يُلفي تحديد مكان ولكن بلا تحديد، بمعنى: اسم منطقة شاسعة، منسوب إليها مرئيّات شخصيّة، وانطباعات حول قريةٍ أو هجرة قصيّة، لا يدري أين؟! ولو لم يُذكر المكان الروائي مطلقًا، وإنما كان الجزيرة العربيّة أو حتى الجنوب، لأمكن تصوّر ذلك واقعيًّا. وبذا بقي النصّ يلحّ على عموم مكان وتَسْمِيَة مواطن مشهورة فيه، وذِكْر أعلامٍ وأشخاص ومعالم، ليصوّر ذلك كله صورة واحدة سلبيّة، وكأن عيني فِتْنَة لم تقتنصا إلا تلك الصورة في كل تلك الديار، في جنوح منها إلى التحامل، أو ربما غربة عن المكان، تمامًا كتحاملها على أبيها وغربتها عنه.

وفي هذا السياق كانت بطلة الراوية تقول كذلك: (كنت أعلم بأنني سأكون المَلِكَة في ذلك المكان الذي لا توجد به امرأة متعلّمة)! (ص62). نعم، تلك تصوّرات فِتْنَة، ولسنا بصدد تقرير اجتماعيّ أو بحث ثقافي لمحاكمة صوابية ما فيه من خَطَله، ولكن النصّ لا يكشف للقارئ عن مصير تلك المرئيّات الأوّليّة في مراحل تطوّر شخصيّة البطلة، معرفيًّا واجتماعيًّا، حتى لكأنها لم تزر عسير أصلاً، فكما جاءت بفكرة خرجتْ بها، على الرغم ممّا صوّرته الكاتبة من تنقّل فِتْنَة هناك واحتكاكها بالمجتمع! وذلك تمامًا كما بقيتْ صلادة شخصيتها حائلة دون أن تُحْدِثَ فيها تجربةُ الحجّ إلا ترسيخًا لمواقفها السابقة على رحلة الحج؛ لأنها - كما قالت - قد بيّتت النية على رفض التخلّص من ذنوبها (ص9). تلك علّتها، وإلاّ فإن ما صوّرته عن امرأة عسير، مقارنة بفتاة قادمة من بادية قَطَر، يتنافى مع حقائق التاريخ والواقع، إذ معروف أن تاريخ التعليم والمدارس في جنوب الجزيرة - بما في ذلك مدارس البنات - كانت قديمة قياسًا إلى مناطق أخرى في الجزيرة أو الخليج، وذلك قبل وجود التعليم النظاميّ الحديث، بطبيعة الحال. فلم تكن فِتْنَة إذن لتبدو في مستواها التعليمي مَلِكَة هناكَ، كما خُيّل إليها!

ولشخصيّة فِتْنَة تلك نظائر واقعيّة من الناس، ممّن لا تكاد تُغيّرهم تجارب الحياة، في مقابل آخرين سريعي التأثّر والتحوّل والتطوّر. ولذلك كله لا غرابة أن تبدو شخصيّة فِتْنَة شخصيّة مُسَطَّحة، لا نامية - بعكس شخصيّة عبدالعزيز، المتتحوّلة من النقيض إلى النقيض - إذ لم تشهد نموًّا يُذكر عبر كل تخبّطاتها ورحلاتها المختلفة، حتى لقد عادت في آخر التعب إلى النقطة التي انطلقت منها في عالمها، على صوت محمّد عبده: (أيووووه قلبي عليك التاع... ما يحتمل غيبتك ليلة)، إيذانًا بانتهاء دورانها في حلقة مفرغة، لتأول إلى البداية نفسها، وكأن شيئًا لم يكن. فهل يُعدّ هذا عيبًا فنّيًّا في بناء نصّ كهذا؟ ذلك ما سيجيب عنه المساق الآتي، إن شاء الله.

لإبداء الرأي حول هذا المقال،أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

(عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة