Culture Magazine Monday  12/02/2007 G Issue 186
فضاءات
الأثنين 24 ,محرم 1428   العدد  186
 

مساقات
البلاغة والهيمنة السياسية: من البديع إلى البديعية!
د. عبد الله الفَيْفي *

 

 

.. ومن الأوراق المهمة في المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي- الذي أقامته الجمعية المصرية للنقد الأدبي، في القاهرة، في الفترة من 1 نوفمبر إلى 5 نوفمبر 2006، تحت شعار (البلاغة والدراسات البلاغية)، المشار إليه في المساق الماضي- ورقة بحث (سوزان ستيتكيفيتش)، بعنوان:

From Rhetorical Ornamentation to the Ornamentalistic: A Study of the Significance of the Rhetorical Style

من البديع إلى البديعيّة: دراسة في دلالة الأسلوب البلاغي). وتذهب الباحثة إلى علاقة كانت بين فنّ البديع وبين الهيمنة السياسية العباسية ثُم الإسلاميّة من بعد. وذلك لارتباط البديع بغرض المديح. فقد أصبح شعر البديع- بوصفه (ما وراء لغة) Metalanguage - على أيدي البديعيين، كأبي نواس، ومسلم بن الوليد، والبحتري، وأبي تمّام (بصفة خاصّة)، الوسيلة اللغوية للتعبير عن هيمنة الدولة العباسيّة، ثم السلطة الإسلاميّة بعامّة. أي أن الأسلوب، بما فيه من تكثيف لأنواع البلاغة، من استعارة وجناس وطباق ورد عجز على صدر، ومذهب كلامي إلخ، أصبح يعبّر في حدّ ذاته عن الهيمنة والسلطة الإسلاميتين، بغض النظر عن محتوى القصيدة، انطلاقًا من مقولة إن (الوسيلة هي الرسالة) (The medium is the message). وتعلّل الباحثة ذلك بالعلاقة بين الأسلوب البلاغي والبيئة الثقافية والسياسية التي نشأ فيها وازدهر، وذلك أنها اشتدت العلاقة بين شعر البديع ومدح الخلفاء، حتى صار أحدهما يوحي بالآخر. وقد ساقت الباحثة أمثلة من شعر أصحاب البديع منذ أبي تمّام، فالبحتري، فالمتنبي، فالبوصيري، وصولاً إلى شوقي.

تقول الباحثة: (وقد اتخذ البديع أيضًا اتجاهًا آخر؛ وذلك أن البديع أصبح - ابتداءً من كتاب البديع لابن المعتز- فرعًا من فروع اللغة، ومن ثم، بدءًا من عصر الجاحظ وظهور المعتزلة، أصبح كذلك جزءًا لا يتجزّأ من علم البلاغة وإعجاز القرآن. وهذا ما أدّى، فيما أعتقد، إلى ظاهرة (البرمجة) في كل من شعر البديع وعلمه. إن المثل البارز للأول هو لزوميّات المعرّي؛ أمّا الثاني، فيتمثّل في كُتب البديع التي ميّزت تمييزًا دقيقًا الأنواع المتعدّدة من الفنون البلاغيّة، وعلى سبيل المثال: (إيضاح القزويني). وكأن هذين التيارين تصادما فانبثق من هذا التصادم نوع شعريّ جديد، يتمثّل في النماذج المعروفة لهذا النوع الشعري لصفيّ الدين الحليّ، وابن جابر الأندلسي، وابن حجّة الحموي).

وقد تناولت الباحثةُ القصيدةَ البديعية بوصفها (مبرمجة) - كما تصفها - من حيث هي معارضة لأشهر المدائح النبوية: بُردة البوصيري، ومن جهة أخرى من حيث هي مكوّنة على أساس أن كل بيت من أبياتها يمثّل نوعًا معيّنًا من أنواع البديع. لتتقصّى تطوّر شعر البديع من أسلوبه المعبّر- حسب زعمها - عن الهيمنة الإسلامية السياسية إلى شعر ذي برنامج مزدوج، يجمع بين علم البديع والمديح النبوي.

وكانت لي مداخلة مع الدكتورة ستيتكيفيتش إبّان إلقاء ورقتها، لم يسمح الوقت وحاجات المؤتمرين البشرية - وكالعادة في ملتقياتنا الثقافية العربيّة - بتفصيلها. ذلك أنه يبدو لي أن ورقة الباحثة تنبني على فكرة مسبقة، تتركّز على البُعد السياسي. فالقول إن البديع انبثق تعبيرًا عن الهيمنة السياسية الإسلاميّة يستنبت سؤالاً: أ (القوة الحضاريّة) أم (القوّة السياسية) كانت وراء نشوء البديع وتطوّره؟

لعلّ أطروحة ستيتكيفيتش تتجافى إذن عن النظر في أبعاد شتّى وراء نشوء البديع وتفجّره في النصّ العربي، أبرزها ثلاثة: علم الكلام وما صاحبه من الجدل الفقهي والفلسفي، ممّا أفرز تلك البنى من المعادلات الذهنية، التي تنمذجت بعد حين في قوالب لغوية أدبية. ثم عامل اتصال الثقافة العربية بالثقافات الأخرى، ولاسيما الفارسية. ومن ثمّ نزوع الشعراء إلى ترحيل الشعر عن هيمنة الماضي إلى العصور الحضاريّة التي عايشها الشعراء.

أمّا ارتباط القصيدة العربية ببلاط السياسة فقد كان منذ نهايات العصر الجاهلي، حين بدأت علاقة الشعر بالحاكم، ومنذ شعر النابغة الذبياني في بلاط النعمان بن المنذر، ثُمَّتَ ظهور التكسّب بالشعر. في حين جاء البديع نتاج تمازج حضاريّ (عربيّ - فارسيّ - إغريقيّ)، وخلاصةَ حركة تطوّر فنّيّ، تبدّت معالمها في المعمار والمنمنمات الإسلاميّة، كما تمثّلت في الشعر البديعي. ولقد كان حَذْوُ الشعراء المتأخرين للنمط الجاهلي في بناء القصيدة أكثر بنيوية من حذوهم لأنماط الزخرفة في القصيدة البديعية.

وكيف حتمية الربط بين البديع والهيمنة السياسية الإسلاميّة، وكثيرٌ من أرباب البديع وروّاده - ممّن استشهدت بهم سوزان ستيتكيفيتش - كانوا معزولين عن السلطة، بل بعضهم كان متمرّدًا، معارضًا بلغة عصرنا؟ وأولهم بشار بن بُرد رائد توظيف البديع، ثم أبو العلاء المعرّي، صا حب (لزوم ما لا يلزم).

وعليه فإن ربط البديع بالهيمنة السياسية يظلّ محلّ سؤال، يسعى إلى إعادة النظر في ركون أطروحة ستيتكيفيتش إلى الهاجس السياسي وتأويلها ظاهرة البديع. بل إنه يمكننا أن ننظر إلى ظاهرة البديع نفسها بوصفها أسلوبًا معبّرًا عن التمرّد على الهيمنة السياسية المستمدّة نفوذها من الماضي، بدءًا من الخروج على بناء القصيدة العربية العتيقة، ولاسيما فيما يتعلّق بالمقدّمة الطللية، وصولاً إلى اختراق بلاغة النصّ الشعري القديمة والأنماط التعبيريّة السّائدة.

لذلك كله كان الشعراء غير البديعيين - أو قل غير المبدعين - أو الأقل بديعيّة، (كالبحتري)، هم الأقرب إلى بلاط السُّلْطَة من البديعيين، الذين كانوا مهمّشين غالبًا (سياسيًّا وثقافيًّا)، وبعضهم قُتِلَ في ظروف غامضة. كما كانوا محجوبين - لغويًّا وثقافيًّا - عن الاحتجاج! وهم يَبْدُوْنَ - بالجُملة - أكثر التصاقًا بالحياة الجديدة، وبالشعب والحياة العامّة، وبإيقاع زمنهم. وهو اتجاه انتهى بأحد أعلامهم المتأخرين - (صفيّ الدين الحلّيّ -750هـ = 1349م) - إلى المستوى الشعبي أو العامّيّ من اللغة والشعر، متمثّلاً ذلك في شعر الزَّجَل، وكتابه بعنوان (العاطل والحالي والمرخص الغالي) مشهور في هذا المضمار.

غير أن هذه المواقفات مع أطروحة الدكتورة سوزان ستيتكيفيتش لا تقلل من تقدير جهودها المتوالية لإعادة قراءة التراث العربي بعمقٍ وتقصّ يبعثان على الإعجاب.

تحويمة:

بين موتي وحياتي،

فاصلٌ:

خيطٌ رفيعٌ من وِصالِكْ!

...

ربما جاء خيالاً من حضورْ:

فاهَ جَوّالُكِ لي صمتًا..

قال شيئًا في عُبُوْرْ !

ربما ألقى رسالةْ

ولتكنْ فارغةً حتى الثُّمالةْ

أرجعتْ للنبضِ قلبي من هنا..

أو من هنالِكْ!

...

هاتها.. يا فتنتي،

أَبْقَى على قَيْدِ الحياةْ..

إنني باقٍ - بلا أنتِ - على قَيْدِ المهالِكْ!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* عضو مجلس الشورى aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة