Culture Magazine Monday  12/11/2007 G Issue 222
فضاءات
الأثنين 2 ,ذو القعدة 1428   العدد  222
 

مساقات
المساق 281 هل العربيّة لغة حيّة؟
د. عبدالله بن أحمد الفيفي

 

 

أوردتُ في المساق السابق ما تفضّلتْ به الأستاذة سُها جلال جودت، الكاتبة والروائية السوريّة، من مقال تفاعليّ حول ما كتبتُ هنا من مقالات عن اللغة العربيّة، جعلتْه بعنوان (عباقرة فقه الحكي الفصيح). وأشرتُ إلى أن لصوت الكاتبة أهميّته؛ إذ ليس بصوت القارئ البسيط، بل صوت المثقّف المسؤول المعتدّ به. فصاحبته: عضوة اتحاد الكُتاب العرب، وعضوة نادي التمثيل للفنون والآداب في سوريا، وعضوة جمعية العاديات، وعضوة المكتب الفرعي للثقافة - فرع نقابة المعلمين، وعضوة النادي الثقافي النسائي، وعضوة في الاتحاد النسائي، ورئيسة لجنة تحكيم المناظرات الثقافية لرواد فرع الطلائع - حَلَب، ورئيسة لجنة تحكيم القصة لرواد فرع الطلائع. تكتب القصّة، والقصّة القصيرة جدًّا، والرواية، والخاطرة، والمقالة، وقصائد للطفل، والقراءة الأدبية. صدرت لها مجموعة قصصية، عام 2001، بعنوان (رجلٌ في المزاد)، عن دار الثريّا بحَلَب، ورواية (السفر إلى حيث يبكي القمر)، عن اتحاد الكُتاب العرب عام 2004، ومجموعة قصصيّة بعنوان (دماء الفرس)، مطبعة الأصيل بحَلَب، عام 2005، ومجموعة قصصيّة مشتركة لملتقى القصّة القصيرة جدًّا، بعنوان (قطوف قلم جريء)، دار الثريّا، عام 2004. بالإضافة إلى مخطوطات، منها: رواية (ذاكرة القلب ذاكرة الروح)، (بائعة العصافير)، قصص، (أنا)، قصص قصيرة جدًّا، (الأدباء يكتبون طفولتهم)، كتابُ دراساتٍ وحوارات، (تراتيل سيمفونية الوطن)، مقالات وخواطر أدبيّة. وقد حصلتْ الكاتبة على عدد من الجوائز في القصّة، وأدب الأطفال، وشاركت في العديد من المهرجانات الثقافيّة. تنشر في الدوريّات العربية والمجلاّت والصحف. هذا ما يرد من معلومات عنها في نهاية روايتها (مثلث الرافدين)؛ ما يعني أنها في بوتقة الحدث التربوي والثقافي، وأن لشهادتها وزنها القمين بالتقدير. وما دام لدى مثقفاتنا ومثقفينا كذلك الوعي الناضج الذي حملته مقالتها المشار إليها، فتلك إذن البشارة: سيكون مستقبل اللغة والثقافة في حصن حصين.. لكن من لنا بأمثال سُها؟!

ليس من همّي ولا همّها تقارض المجاملات والتقريظ المجّاني، لكنه الاعتراف بالحقّ والفضل لأهله، والاشتراك في هاجس واحد، ينتج صوتًا واحدًا، هو صوت المثقف العربي، المجرّد من المصالح والأهواء. ومقالة السيدة سُها - كما رأينا في المساق السابق - تتطرق لشبكة من الإشكاليّات الثقافيّة، تتضافر جميعها في إنتاج حالة من التردّي، مع شعورٍ بصَغار المثقّف العربي - إنْ صدق عليه هذا النعت - حيال اللغات الأخرى، وكأنه مخلوق هكذا بلا لغة، فتراه يتسوّل الكلمات والمصطلحات، باسم التحديث والعصرنة والتسهيل، دونما استراتيجية، لا تعليميّة، ولا إعلاميّة، ولا ثقافية، وإنما الحال خَبْط عَشْوَاء.. مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ، ومَنْ يَسْلَمْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ!

حتى مجامع اللغة العربية على كثرتها واختلافها رجعت بخفّي حُنين بين طائفتين من الناس، طائفة ترى العربيّة ما قاله الأوائل ولا زيادة عليه لمستزيد، كلّ مغايرة لما قالوه انحراف سلبيّ، وطائفة ترى الإبداع اللغوي يتعارض مع مشاريع تلك المجامع، متناسيةً جهودها في الترجمة والتعريب ووضع المصطلحات لما استجدّ في حياة العرب، وما أكثر ما يستجدّ في حياتهم المستهلكة غير المنتجة! هذه الطائفة المتحاملة على المجامع، لمآرب شتّى، لا ترى فيها إلا السلبيّات والنقائص، محمّلةً إيّاها فشلها، وفشل غيرها من الجهات التنفيذيّة لقراراتها، أو بالأصح استخفافها بتلك القرارات، وتعويق المؤسّسات العربيّة المساندة كافة في الأمتين العربيّة والإسلاميّة! وكأن فشل التعليم العربي اليوم إذن - بحسب منطق المثبّطين - مسوّغ لإلغائه، وفشل الإعلام العربيّ مسوغ لوقفه! وعلّة هذين المنطقين المتطرّفين يتمثّل في الرُّهاب من الحاضر أو الماضي، فالفريق الأول يرى كل بدعةٍ لغويّة ضلالة، والفريق الآخر يرى كل قديم لغويّ ضلالا! وكأن القاسم بين هذين المنطقين العدميّين منطق الشاعر الحَلَبي أبي فراس الحمداني:

ونحنُ أناسٌ لا توسطَ عندنا

لنا الصدرُ دونَ العالمينَ أو القَبْرُ!

وهو ما يتناقض مع منطق حفيدة أبي فراس: سُها جودت، في واقعيّتها واعتدالها وتفاؤلها الواعي؛ إذ ترى صراع اليوم صراع لغة، وصراع إعلام، ومعترك فكر، وتقنية، فماذا عسانا أعددنا من قوة لهذا كله، غير الاستسلام لواقع الحال، أو الانسلاخ والتبعيّة باسم (المعاصرة)، دونما فهمٍ حتى لمعنى هذه الكلمة؟

وفي مقابل هذا الصوت هناك من لا يزال يحلم بالمعجزات، فتراه ما ينفكّ يلتمس المعاذير، والتأويلات، مهوّنًا كل مهول، مهوّلاً كل مهين. ما يزال ينفي الخطورة على اللغة العربيّة، ليُبرّر (تسونامي) العاميّة تارة، وطوفان اللغات الأجنبيّة تارة. ما برح يتكلّف المعاذير، ويتمسّح بأعتاب الجماهير، ليشتري بتراث أُمّتِه كاملاً ثمنًا قليلاً من جاهٍ أو صيتٍ أو مالٍ، أو حتى مجرد عبارة: (بيّض الله وجهك.. عزّ الله ما قصرت!). وكأن سُنن الله لا تسري على العرب، ولا على لغتهم. مع أن حال العربيّة، ومنذ القرن الثاني الهجري، أكبر برهان على أن اللغة العربية كأي لغة أخرى، ليست بمحفوظة إلا بحفظ أهلها إيّاها، وأن مصير العرب مع لغتهم سيكون كحال الشعوب الإسلاميّة الأخرى مع اللغة العربية، تكلّف لغة طقوسيّة لا تلتحم بالحياة.

ولئن كان لا بدّ من التفريق هنا بين وجود العاميّة في ذاته وبين إعلاء الإعلام لشأنها، وتقصير التعليم عن تعليم العربيّة، فلا ريب أن جماع ذلك في النهاية مظاهر متكاملة. وما المبالغة في تسويغ وجود العاميّة، واستخدامها، واستنساخها كابرًا عن كابر، والاستيحاش من استخدام الفصحى، لغة البيان والقرآن والحضارة الإسلاميّة، وكأنها قد باتت لغة أخرى، إلا المهاد المفضي إلى تسويغ كل ما يترتّب على ذلك ويتبعه من تداعيات، وتسليمات، وتنازلات؛ ذلك أن اللغة إذا سقطت سقط كل شيء، من الهويّة إلى آخر مقوّم انتماء واستقلال.

وهذا يؤدي كذلك إلى أن تبدو اللغة العربيّة، إنْ عاجلاً أو آجلاً، لغة ميّتة، لا يعدو استعمالها الصلاة وتلاوة القرآن والممارسات الدينية، والمنابر الرسمية (جدًّا!)، والكتابة في مستوى أدبي خاص، وما تلك باللغة الحيّة. إن اللغة الحيّة حقًّا ليست لغة الكتب، ولا ما تلوكه بعض ألسنة المثقفين فقط، فهذا النوع من الحياة وهذا الضرب من الحفظ موجود حتى في إطار اللغات الميّتة، وإنما اللغة الحيّة حقًّا هي تلك التي تكون لغة حياة، وتقنية، وتفاعل، وتداول يومي، بما تعنيه تلك الكلمات من معان. فهل العربيّة اليوم كذلك؟ ليذهب الشاكُّ في حالها، المشكّك في النُّذُر بما يتهدّدها، إلى أقرب أقسام اللغة العربية الجامعيّة إليه - لن أقول إلى غيرها - ليعرف مستوى حفظ اللغة العربية في حياتنا، وليَدَع التنظير والأحلام إلى وقتٍ لاحق!

ولقد يرى بعضٌ - في شِبْه نوم أو استنامة - أن العاميّة واقعٌ لا مناص لنا منه، ومن ثم فلا جدوى من نقدها! ومع أن الهدف من هذا النقد لا تكميم أفواه الناس، بل ترشيد بثّ العاميّة بما لا يطغى على الفصحى، إلاّ أن منطق ذلك المحتجّ بالسائد يكشف لنا عادةً عن عقلية عروبيّة بامتياز، ترى الإرث حجّة البقاء، وسيدودة مظهرٍ ما ذريعة التسليم به والاستسلام له، فالشعر العامي - بحسب ذلك المنطيق بلا منطق - أدبٌ رائق رائج، وهو ثقافة متداولة محبّبة! وبطبيعة الحال البشريّة حين يكون معيار التداول والحُبّ معيارًا ثقافيًّا للتفريق بين صالح وطالح، فإن كل ذي لُبّ سيدرك أن بوصلتنا معطّلة؛ إذ أمور كثيرة قائمة وتقوم في المجتمعات وتنتشر، يتعاطاها عامّتهم، وربما خاصّتهم، ويعشقونها، منذ وثنية العرب إلى آخر ممارساتهم القيمية أو الشعريّة التي بلغت مكانة القداسة لديهم، فهل ذلك مسوغ للرضا بها وعدم السعي إلى الانعتاق منها؟! بل لعلّ أكثر الأشياء ضررًا أكثرها انتشارًا، وتعاطيًا، وعشقًا من قِبَل سواد النفوس الأمّارة بالسوء. لكن منطق الجاهلية في كل زمان ومكان يظلّ ليضلّ: (إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهتدون)!

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة