الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 12th December,2005 العدد : 133

الأثنين 10 ,ذو القعدة 1426

مساقات
بنية التداخل في بلاغة الأجناس الأدبية
د. عبد الله الفَيْفي

لم يكن (سقف الكفاية)، لمحمد حسن علوان، 2002، بأول نص يشكّل جنساً كتابيًّا يمكن أن يسمى ب(القصيدة - الرواية)، بل كان من أواخر التجليات الصارخة لهذا الاتجاه في الرواية المحلية. ومن أهم الشعراء الذين سبقوه إلى ذلك محليًّا: (أبو دهمان)، في (الحزام)، الترجمة العربية: 2001 . وقبله: (علي الدميني)، في (الغيمة الرصاصية)، 1998. وكنت قد آثرت في مقاربة سالفة لرواية (سقف الكفاية) البدء بالنهاية، أي بواحد من آخر المنتج في هذا الضرب من النصوص، ثم تأصيل الحركة القهقرى، عوداً على بدء. وذلك استلهاماً للتقنية الروائية، أو المسرحية، نفسها المعروفة بالارتجاع الفنيّ، أو الخطف خلفًا، Flashback. أي الرجوع في أثناء التسلسل الزمني للقصة، أو المسرحية، أو الفيلم، إلى البواعث والأسباب والظروف الماضية، التي أفضت إلى نهايتها. أفعل هذا لما أتوخاه، في دراسة ستظهر لاحقًا في عمل متكامل، من أن يتمكّن القارئ من تتبع هذه الحركة الفنية في نماذج جاء آخرها إعلاناً عن وجوده الفارق، وذلك في أشد هذا النمط شعرية ملتبسة: (سقف الكفاية). ونماذج هذا النمط الفني - الذي يوشك أن يشكّل جنسًا أدبيًّا قائمًا بذاته - لا تبدو متخذة تسلسلاً تاريخيًّا متنامياً، كي تُدرس على هذا النحو، بمقدار ما تقفز قفزات شاعرية مفاجئة، كما هو الحال في بنيات النصوص ذاتها.
ولا يعني حصر الدراسة في النصوص الثلاثة المشار إليها اقتصار هذا الاتجاه الروائي الشعري عليها، وإنما هي عينة نموذجية للدراسة؛ إذ إن مغامرات الشعراء في الكتابة الروائية أوسع من أن تُستقرأ، لا عالميّاً - ومنذ (مجنون إلسا) لأراغون، على سبيل التمثيل - ولا عربيًّا، منذ (ليالي سطيح) لحافظ إبراهيم. أمّا تداخل الشعري بالسردي في النص المعاصر، فظاهرة أوسع من هذا بكثير، تظهر في أعمال غابرييل غارسيا ماركيز، كما تظهر عربيًّا في روايات مختلفة، ك(البحث عن مسعود)، لجبرا إبراهيم جبرا، و(الزمن الموحش) لحيدر حيدر، و(رامة والتنين) لإدوار الخراط - صاحب المصطلح المعروف به (الكتابة عبر النوعية) - وصولاً إلى (ذاكرة الجسد) لأحلام مستغانمي، أو (الباذنجانة الزرقاء)، و(الخباء)، و(نقرات الظباء)، لميرال الطحاوي. ومحليًّا تتبدّى عبر نصوص شتى، يمكن أن يشار منها، وعلى نحو خاص إلى ذلك العمل بعنوان (أو.. على مرمى صحراء.. في الخلف)، لعواض شاهر العصيمي، الذي صدر في الفترة نفسها التي صدر فيها (سقف الكفاية)، أي بدايات 2002م.
بيد أن ما يمكن أن تقوم عليه أطروحة كهذه ليس نصوصاً لشعراء كتبوا أعمالاً روائية، ولا على محض نصوص تتداخل فيها الرواية بالشعر. لأن الفئة الأولى لا تشكّل بالضرورة نوعاً أدبيًّا، والفئة الأخرى إنما تمثّل تلاقحاً طبيعيًّا بين جنسين أدبيين: الرواية والشعر، لا تذهب بهوية الرواية، بوصفها جنساً أدبيًّا، ولا تقيم لغة شعرية قوية النسب في خصائص الشعر، بل تظل في النطاق المحدود لشعرية النثر الفني. أمّا ما تقوم عليه أطروحة هذا البحث فنصوصٌ لها خصائص مائزة نوعيًّا، وذلك:
1) لأن كتّابها شعراء أولاً، وعُرفوا أساسًا بالشعر، ومارسوه جُلّ حياتهم، حتى انطبعت شخصيته على لغتهم وأساليبهم، على تفاوت ما بينهم في الشهرة والشعرية.
2) أن ما أنجزوه - تحت مصطلح رواية - ما هو إلا نصوص شعرية في لغتها وبنائها، تتشبّه للقارئ في قوالب روائية أوّل وهلة، فإذا ما أمعن فيها النظر، تكشّفت له عن أنها لا بروايات حقيقية ولا بقصائد خالصة، بل هي بين بين، في منطقة وسطى بين جنسين. وآنئذٍ، تستحق أن تشخّص بوصفها جنساً ثالثاً، اقتُرح من قبل أن يُدعى: (القصيدة- الرواية). وما دام التركيز على تلك النصوص لم يكن لينبني على أساس أن كتابها شعراء فقط - ولكن فوق ذلك، على أن نصوصهم نفسها تظلّ، كما اتضح في الدراسة التي نُشرت هنا منذ حين عن النص الأول، شعراً من نوع خاص، كما هي روايات من نوع خاص - فإنه لا بدّ من أن يُستبعد إدراج تجربة شاعر مهم كغازي القصيبي مثلاً في هذا الرصد؛ لأن القصيبي - على الرغم من تجربته الشعرية الثرّة والطويلة، وممّا يعمد إليه عادةً من تضمين رواياته شواهد شعرية كثيرة، ومع أنه يُسجّل له في الحركة الأدبية في المملكة أنه أول مقتحمي الرواية بخلفيةٍ شعرية راسخة التميّز - غير أنه قد ساق نصوصه السرديّة في شكل سيريّ غالب، (شقة الحريّة) مثلاً، أو في أسلوب استجوابي، كما في (العصفورية). أي أنه نأى عن أن يسلك نسقاً شعريًّا في كتابته، كما فعل أولئك الشعراء الثلاثة المشار إليهم. وفي الوقت نفسه، يمكن أن تتناظر مع طبيعة (القصيدة- الرواية) نصوصٌ أخرى، بالرغم من عدم معرفة خلفية مؤلّفيها الشعرية.
-2 -
ومعروف أن نص (الحزام) كتب لأول مرة باللغة الفرنسية، وطبع سنة 2000 (Gallimard, Paris). ثم ترجم إلى العربية في طبعته الأولى سنة 2001، دار الساقي، بيروت. هذه الدار التي عوّدت قراء منشوراتها بالكثير من المفاجآت على مستوى الرواية السعودية، ولعل (بنات الرياض)، لرجاء الصانع، كانت آخرها. وهي مفاجآت يمكن القول عنها - في هامش اعتراضي: إن منها ما وُلد غضًا ناضجًا، وفئة أخرى بدت هشّة، ذات بُعد إيديولوجي أو اجتماعي، أكثر منه أدبي، يغذي تخبطنا الفكري ما بين انغلاق وشطط. وتلك حكاية أخرى، غير أن كلا الطائفتين من الانتاج المفاجئ، الذي يديره الساقي، له أهميته ودلالته وكشفه. ولئن كان النص الشعري يَفْسُد بترجمته، فإن الترجمان في (الحزام) هو المؤلف نفسه. على أنه يمكن القول إن قارئ (الحزام) العربي ليس بإزاء ترجمة، وإنما هو بإزاء نصّ أصيل، ليس لأنه تُرجم من قِبَل مؤلفه نفسه فحسب، ولكن أيضاً لأنه يمثّل ذاكرة الكاتب ولغته الأُمّ، بحيث يمكن القول إن النص العربي هو النص المترجم إلى الفرنسية، وليس العكس. ولا تختلف لغة (الحزام) في كثافة شعريتها عن لغة (سقف الكفاية)، في توظيفها لمختلف العناصر الشعرية، الصوتية والدلالية، في شتى أجزاء النص. كأن يقول، من (مدخل) النص، في إيقاع شعري انزياحي واضح (ص11):
(في باريس احتميت بقريتي،
أحملها كنار لا تنطفئ،
ألقي السلام بصوت مرتفع كما كنّا نفعل،
وعندما اكتشفت أنهم لا يسمعون
ألقيت السلام على السلام بصوت خفيض.
كتبتُ (الحزام) لألقي السلام بالصوت الذي يمكن أن يسمعوه،
إذ عرفت بعد سنوات عديدة أن الشعوب القارئة لا تسمع إلا الصوت المكتوب،
سمعوا سلامي وردوا التحية بأحسن منها.
رأيت الحزام في الواجهات،
في البيوت، علّقه بعضهم على جسده كما نفعل في القرية، اتسعت قريتي واستعدنا السلام). إلى قوله (ص 50): (... النوم لم يأت في غياب رائحة أمي. غادرتُ فراشي بحثاً عنها. كانت على سطح المنزل قريبة من السماء والنجوم، وكان لديّ يقين عميق بأنّ النجوم ليست إلاّ كلمات، وما على أمّي إلاّ قطفها وصياغتها أغنيات...) ونقل النصوص من شكل كتابتها النثرية المسترسلة كما هي في (الحزام) إلى هذا الشكل الموزعة فيه جمل النص على أسطر، يشخّص البُعد الشعري البصريّ المغيّب، الذي لعل استعادته هاهنا يُسهم أكثر في تألّق النسق الشعري، لغةً وإيقاعاً، ولا سيما لدى القارئ العربي ذي الذاكرة البصرية في شكل الكتابة الشعرية. ومن جهة أخرى فإنه يبرز البُعد النظمي الكامن في هذه النصوص - بحُموله الصوتية والدلالية - المنبثق من العبارات، التي تبدو للقارئ في ظاهرها نثراً لأول وهلة. وهو ما بدا كذلك من قَبْل في (سقف الكفاية). وعلى هذه الوتيرة يمضي سائر النص، بحيث لا جدوى هنا من إيراد الشواهد على شعرية النص، إلا كما يسوغ أن يُستشهد على الشعرية في قصيدة شعرية؛ ذلك أن مجمل النص بمثابة شاهد شعري واحد، يحار الدارس أي جزء منه يورده مثالاً. حتى إن صفحات من الجزء المعنون ب(قوس قزح)، وتحديداً من الصفحة 73 إلى الصفحة 77 من (الحزام)، يمثّل قطعة شعرية خالصة. وشعرية اللغة في (الحزام) هي على غرار ما تقدم من شعرية اللغة في (سقف الكفاية)، شعرية شِعْر لا شعرية سرد. بما أن اللغة هنا قد صارت ممعنة في غائيتها الذاتية، أي في كون اللغة غاية، كما هو شأن اللغة الشعرية، لا محض وسيلة للتعبير والتصوير للمواقف والشخصيات، حسبما تقتضية الشعرية الروائية. وللدرس اتصال، بمشيئة الله.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved