الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 15th December,2003 العدد : 39

الأثنين 21 ,شوال 1424

مساقات
الشاعرُ بوصفه كلمة شعرية
د.عبدالله الفَيْفي

(1)
ليس الاعتماد على الألقاب في تصنيف الدرجات الإبداعية علمية كانت أو فنية أو رياضية بالتقليد المستحدث في العصر الحديث. إذ يقف الدارس في مجال الشعر العربي على طائفة من الألقاب أُلصقت بأصحابها لتقييمهم فنياً. وقد تطرّق المساق الماضي، «عدد 36 من (المجلة الثقافي)»، إلى «الشاعر بوصفه قصيدة»، بينما سيبدو الشاعر في هذا المساق «كلمة شعرية». حيث قيل إن بعض ألقاب الشعراء إنما جاء نتيجة كلمة أو عبارة استخدمها الشاعر أو رددها، فتحولت إلى لقبٍ يطغى على اسمه، استطرافاً، أو استهجاناً، أو استغراباً. وذلك كلقب المُمزق، والمثقب، والمتلمس، والمزرد، ومقبل الريح، وذو الخرق، ومُدْرِج الرِّيْح، وأُفنون، ومعود الحكماء.. وغيرها.
ومع أنه قد سبق في مساقات سالفة التحفظ من التقليد الشائع في عزو ألقاب الشعراء إلى كلمات من شعرهم حينما تقوم أسباب أخرى أوجه للتعليل فإن هذا الصنف من دواعي التلقيب يظلّ جدّ شائع. شاع بين شعراء الجاهلية، وامتدّ إلى شعراء الإسلام، بامتداد الأسلوب الشفاهي الشعبي في التصنيف بأغراضه التعريفية أو التقييمية كلقب «عائد الكلب»، ل«عبدالله بن مصعب الزبيري»(1)، و«غبار العسكر»، ل«مروان بن أبي الجنوب»(2)، أو حتى ما قيل عن لقب «المرعّث» ل«بشار بن برد»(3). وهذه الطريقة في التلقيب تعكس ذوقاً شعبيّا، قديماً حديثاً، في تلقي شعر الشاعر والحكم عليه، من خلال لفتةٍ نقدية لا تخلو، على بساطتها، من نظرة نقدية نافذة إلى لغة الشاعر وتراكيبه. وهذا يمثل جزءاً من ثقافة تصنيفية عامة، تمارس وظيفتها بإلصاق شارات فارزة، سالبة أو موجبة، على المحيط العام، من الأشياء والأشخاص. وهو سلوك ثقافي ما يزال حيا في الوسط الشعبي العربي إلى اليوم. فلو كان شعراء العصر الحديث يعيشون تلك الثقافة الشفاهية الشعبية، لربما قُلّد «حافظ إبراهيم» مثلاً لقب «البحر»، من قوله: «أنا البحر..»، أو «نزار قباني» لقب «الياسمين»، أو «المتنفّس تحت الماء!».. وهكذا.
ونتيجة لتفشي هذه الظاهرة التقليدية من تلقيب الشاعر بناء على كلمة من شعره أو عبارة، كثر تعلّق الدارسين بالتماس تعليل الألقاب بكلمات للشعراء. إلا أن تلك الظاهرة في ذاتها على افتراض صحتها لا تجرد اللقب من دلالته النقدية. فلئن كان «المثقب العبدي، ت.587م»، على سبيل المثال، قد لقّب بالمثقب لقوله في «مَشُوْبتِه المفضليّة»، «المفضليات: 76»: «وتقّبن الوصاوص للعيون»، أو كان لقب «المُمزّق العبدي» قد جاء لقول الممزق: «فأدركني ولمّا أُمَزّقِ»، فإن هذه الحساسية إزاء هذه الكلمة أو تلك بحيث يجعلها المتلقون علامة على الشاعر وشعره هي في ذاتها دالة على أنهم قد استطرفوا استعمال الشاعر أو استغربوه.
ومن هنا يمكن القول: إن تلقيب «المثقب العبدي» بلقبه هذا لم يتأت لمجرد استخدامه كلمة «ثقّبن»، ولكن للصورة التي انفرد بها في تعبيره. إذ يأتي «التفعيل» «ثقبن» من قصيدته بعد الفعلين «ظَهَرْنَ» و«سَدَلْنَ»، «راجع قصيدته»؛ ليدل على شدّة النفاذ؛ خاصةً أن الغالب في استعمال مادة «ثقب» أن يشار بها إلى النفاذ من مادة صلبة، كأن يقال: «ثقب المسمارُ اللوحَ أو الجدار»؛ ولذا اشتقوا من ذلك صفة «الثاقب»، أي: شديد النفاذ. أما «الوَصَاوِص» وهي «البراقع» فما يكون فيها ونحوها هو «خرق» لا «ثقب». «ينظر: ابن منظور، لسان العرب، «ثقب»، «خرق». وإذا كان هذا هو الغالب في الاستعمال اللغوي، كما حفظه لنا لسان العرب وأبقاه الذوق اللغوي العام، فقد جاء التعبير ب«ثقبن الوصاوص» استخداماً لتركيب مختلف عن المألوف اللغوي، «ثقب» به الشاعر أفق التلقي لدى السامعين، بحساسيتهم الفطرية ورهافتهم اللغوية.
واستعمال الشاعر عبارته تلك يحمل في طيات اختلافه بعدا مجازيا؛ وكأنما الشاعر كان يتوسله إلى تصوير تحدي المرأة لتلك الحُجُب الكثيفة والكثيرة، حالة كونها واكنةً على خشب الرجائز من هودجها، توشك أن تغدو جزءاً منه أو يغدو جزءاً منها، تظهر بكلة تارة وتسدل دونها كلة أخرى تارة أخرى.
على أن استعماله ذاك يأتي كذلك تساوقاً مع مفردات النصّ الأخرى: ك«فاطم.. بين.. منع.. تبين..تخالف.. خلاف.. ما وصلت.. قطعت.. بيني.. تطالع.. خرجت.. نكبن.. قطعن.. تنوش».. هذا فضلا عن: «ظهران.. الخ».
وسواء أقرئ وراء هذا النص ضرب من النقد الاجتماعي أو القيمي، بوصف المرأة رمزا عاماً للحياة أم قرئ محض تعبير عن العوائق الاجتماعية التي حالت دون الشاعر ومحبوبته، في مجتمع يفسد من حيث يظن أنه يصلح، فإن عبارة «ثقبن الوصاوص» ما انفكت لافتة الأنظار التي منحت الشاعر لقبه المشهور: «المثقب».
الطريف في هذا السياق أن ابن أخت «المثقب» قد لُقب بلقب شبيه بلقبه، لسبب شبيه بسببه، وذلك هو الشاعر «الممزّق العبدي».
فهو «ممزّق» وخاله «مثقّب»! ويبدو أن العائلة كلها كانت تتوارث حرفة «التمزيق» و«التثقيب» تلك، لو سلم بتعليل القدماء للألقاب!
لقد قيل إن «الممزّق» لقب بلقبه هذا لقوله مخاطبا «عمرو بن المنذر بن عمرو بن النعمان»:
فإن كنتُ مأكولاً فكن خير آكل
وإلا فأدركني ولما أُمزَّق(4)
لكن أحداً لم يلتفت إلى السبب الحقيقي لاكتساب الشاعر لقبه هذا، وهو أنه قد انزاح هاهنا بمعنى «التمزيق» الذي يكون غالبا في الثياب ونحوها أو في «تمزيق» المفترس فريسته إلى تفرق دمه بين أعدائه، على سبيل التشبيه. فأُلصق لقب «الممزّق» به كما أُلصق من قبل لقب «المثقب» بخاله، لجدة اللفتة الاستعارية التي اجترحها كلٌّ منهما، ف«ثقبتْ» أو «مزقتْ» العُرف التعبيري السائد.
ليس هذا فحسب، بل لقد استعمل «الممزّقُ» الكلمة في موضع آخر من شعره أيضاً، حسب إحدى الروايات، حيث قال:
فمن مبلغ النعمان أنّ ابن أخته
على العين يعتاد الصفا ويمزِّق(5)
.. لكن «لتمزيقه» هذا الأخير مساقنا المقبل، بإذن الله!
إشارات
(1) انظر: الأصفهاني، «1983»، الأغاني، تح. لجنة من الأدباء، «بيروت: دار الثقافة»، 23:391.
(2) انظر: المرزباني، «1960»، معجم الشعراء، تح. عبدالستار أحمد فراج، «القاهرة: دار إحياء الكتب العربية»، 399؛ الثعالبي، لطائف المعارف، تح. الإبياري والصيرفي،33.
(3) انظر: الأصفهاني، 3:133.
(4) انظر: الجاحظ، «د.ت»، البيان والتبيين، تح. عبدالسلام محمد هارون، «القاهرة: مكتبة الخانجي»، 375:1؛ الآمدي، «1961»، المؤتلف والمختلف، تح. عبدالستار أحمد فراج، «القاهرة: دار إحياء الكتب العربية»، 185.
(5) الضبي، «د.ت)، المفضليات، تح. أحمد محمد شاكر وعبدالسلام محمد هارون، «القاهرة: دار المعارف»، ص301:3، ص434:12.


aalfaifv@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved