الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 16th May,2005 العدد : 106

الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم 18 العِلْم والجَمَال
د. عبد الله الفَيْفي
1
.. وإذا كانت الثقافة قد غالت في نعت قيمة الحياء لدى المرأة، إلى حدّ إلغاء شخصية المرأة من المجتمع إلغاءً، فماذا عن قيمة الحياء في الرجل؟
لقد جاء عن حياء الرجال في أمثال المولّدين، حسب (الميداني)(1)، قولهم: (حياء الرجل في غير موضعه ضَعْف)، و(الحياء يمنع الرِّزْق).
وهكذا، فكما كانت الشجاعة قيمة ذكورية، نموذجها الأعلى الرجل، فإن الحياء ظلّ قيمة أنوثية، نموذجها الأعلى المرأة. ولم يصبح الحياء قيمة أخلاقية للرجال إلا في الإسلام، حينما صار شعبةً من شُعِب الإيمان، فجاء في الأحاديث الشريفة مثلاً: (الحياء من الإيمان)، و(الحياء خيرٌ كله)، و(إن لكل دين خُلُقاً، وإنّ خلق الإسلام الحياء)، و(إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والحياء)، و(كان النبيّ أشدّ حياءً من العذراء في خدرها)، و(إن الله حييٌّ ستيرٌ يحبُّ الحياء)(2)، وغيرها من الأحاديث.
على أن قيمة كقيمة الحياء هي قيمة مواربة، قابلة لأن ينظر إليها اجتماعياً بأهواء مختلفة، حتى إن المجتمع العربي قد يتصرف فيها ليجعل ما خالف العادات والتقاليد أمراً ينبغي أن يستحى منه، وإن وافق قيم الحقّ والخير والجمال، وذلك كحياء الناس في معظم المجتمعات العربية من ممارسة بعض الحرف الشريفة، لا لشيء سوى أنها تتعارض مع بعض العادات التقاليد.
ولهذا كانت المعضلة في تربية الشعوب المتذرعة بقيمة الحياء في غير موضعها، فجاءت عبارات قرآنية توجيهية كقوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}(53) سورة الأحزاب. وأقوال مأثورة في أن (لا حياء في الدين ولا حياء في العلم)، كقول (مجاهد): (لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر)، أو قول (عائشة، رضي الله عنها): (نعمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقهن في الدين)(3).
2
وهكذا فإن القيمَ لا تتأثر في النظرة إليها في المجتمع العربي بعوامل الفطرة والطبيعة فحسب، وإنما تتأثر كذلك بالنظرة الجذرية إلى قيم الذكورة والأنوثة. ويتضح ذلك بالنظر إلى كثير من القيم كقيمة (طلب العلم)، فقد بدا العلم في الثقافة العربية أكثر اقتراناً بمجتمع الرجال منه بمجتمع النساء، حتى لا نكاد نجد صفة (عالمة) في تراثنا العربي، إلا نادرًا، مع وجودهنّ. ناهيك عن أن تعليم المرأة في حد ذاته كان ينظر إليه بارتياب، وإن بدرجة متفاوتة على مدى التاريخ العربي، وكأنما الرجال يخشون على أنفسهم من اقتراب المرأة إلى شجرة المعرفة، حتى لقد قال الجاحظ(4) (255هـ = 868م) وهو من هو في ثقافتنا العربية: (كان يقال: لا تعلموا بناتكم الكتاب، ولا تروّوهنّ الشعرَ، وعلموهنّ القرآن، ومن القرآن سورة النور). فحتى القرآن لا ينبغي وفق تلك الأعراف أن تتعلمه المرأة كاملاً؛ لأن سورهُ لا تخلو من محظورات على المرأة! إلى هذا الحد! ولذلك نهض (العلم) قيمة معيارية ذكوريّة إزاء قيمة (الجمال)(5). وكأن وجود أحدهما يعكر في المخيال العربي صفو وجود الآخر؛ فالمرأة المثالية هي المرأة الجميلة، وإن لم تكن عالمة أو متعلمة، بل لربما ازدادت قيمة الجمال في المرأة لجهلها، وعِيّها، وضعفها اللغوي والبياني، على حد قول (مالك بن أسماء بن خارجة الفزاري)(6):
منطقٌ رائعٌ، وتَلْحنُ أحيا
ناً، وخيرُ الحديث ما كان لَحْنَا
أو قول (عمر بن أبي ربيعة)(7):
فما اسْتَجْمَلَتْ نفسي حديثاً لغيرِها
وإنْ كان لَحْناً ما تُحَدّثُنا خَلْفا
على حين يعدّ اللحن عيباً ممقوتاً في الرجال، دالاًّ على الجهل، والعيّ، وانحطاط الطبقة أو المحتد، ما لم يكن في مخاطبة امرأة محبوبة، حسب قول (البهاء زهير)(8):
بروحي من أسمّيها بسِتِّي
فتنظرني النحاةُ بعَيْن مَقْت
يرون بأنني قد قلتُ لَحْناً
وكيف وإنني لزهير وَقْتي!
ولكن غادةٌ ملكتْ جهاتي
فلا لَحْنٌ إذا ما قلتُ: سِتِّي!
ومن ثم فلا يُستملح اللحن من الذكر إلا شذوذاً، أو من غير عربي، كما في قول (أبي نواس)(9):
فيا حُسْنَهُ لحناً بدا من لسانهِ
ويا حُسْنَهُ لحظاً ويا حُسْنَهُ ثَغْرا!
3
أما قيمة الجمال التي لم تَخْصُصْها (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية)، (الرياض: دار رواح، 1421ه = 2000م) بأحد مجلداتها فقد تعلقت عند العرب بالمرأة لا بالرجل، حتى لقد اختارت اللغة أن تسمي جمال الرجل (وسامة)، لا (جمالاً). ويقابل القيمَ الحسية المستحبة في الأنثى قيمٌ ذهنية مستحبة في الذكر: ك(العلم)، و(الحكمة)، و(الفصاحة)(10). كما اختصت الذكورة بقيمٍ أخرى، ك(البشاشة)(11)، المحظورة عن المرأة، وإن كانت تختلف في مفهومها عن (الخضوع بالقول) المنهيّ عنه في القرآن الكريم، والمشير إلى درجة من التكسر في الخطاب، بما يثير طمع الذي في قلبه مرض.
هذا فضلاً عن قيم تبدو ذكورية صرفة، كقيمتي (الحُرّيّة)، و(الغيرة)(12). ولئن كانت (موسوعة القيم) في جزئها التاسع عشر قد تحدثت عن (حُرّيّة المرأة) في المجتمع العربي القديم، مستدلة بمثل قول فتاة:
أيُزْجَرُ لاهينا ونُلْحَى على الصِّبا
وما نحنُ والفِتْيانُ إلا شَقائقُ؟!(13)
فإنما يدلّ مثل هذا البيت على احتجاج ضدّ واقع قائم من الحيف على النساء في الحرية والغلو في ذلك. بل إن الموسوعة نفسها قد نسبت البيت في (الجزء الثالث والأربعين، ص54) إلى رجل لا امرأة، وهو (جثامة بن عقيل). ومن ثمّ فالبيت يمثل صوت الرجل لا صوت المرأة، وهو إلى هذا، وبهذا، يدلّ على احتجاج على واقعٍ قائمٍ لا تجرؤ المرأةُ حتى على مجرد الاحتجاج عليه.
ومناقشة هذه المسألة في المساق المقبل، إن شاء الله!
إحالات:
1 (1955م)، مجمع الأمثال، تح. محمد محيي الدين عبدالحميد (مصر: مطبعة السنة المحميدية)، 1: 230
2 انظر: وِنْسِنْكْ، أ. ي. (ولفيف من المستشرقين)، (1986م)، المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي عن الكتب الستة وعن مسند الدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل، (استانبول: دار الدعوة)، 1: 532 543 (حياء).
3 البخاري، (1981م)، صحيح البخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا (دمشق، بيروت: دار القلم)، 1: 60 (باب الحياء في العلم).
4 (1975م)، البيان والتبيين، تح. عبدالسلام محمد هارون (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 2: 180
5 انظر: موسوعة القيم: 38: 50
6 ابن منظور، لسان العرب، (لحن).
7 (1992م)، ديوان عمر بن أبي ربيعة، عناية: فايز محمد (بيروت: دار الكتاب العربي)، ص229: 3
8 (1977م)، ديوان البهاء زهير، شرح وتحقيق: محمد طاهر الجبلاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف)، 49
9 (1982م)، ديوان أبي نواس الحسن بن هانئ، تح. أحمد عبدالمجيد الغزالي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 125
10 انظر: موسوعة القيم: المجلدات 23، 38، 44
11 انظر: م. ن.، المجلد 11
12 انظر: م. ن.، المجلدين 19، 43
13 م. ن.، 19: 43


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
مسرح
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved