الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 17th May,2004 العدد : 59

الأثنين 28 ,ربيع الاول 1425

مساقات
شيطانة الشِّعْر..!
د. عبد الله الفَيْفي

يمثّل لقب (الخَنْساء)، الذي أُطلق على الشاعرة المخضرمة، المحترمة لدى نقادنا القدماء، (تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السُّلَمية، ت. 645م)، بُعْداً اجتماعيّاً ثقافيّاً، لعلاقته الرمزية بالأُنثى في الثقافة الجاهلية. و{الثقافة} ما أن تتعلق ب{الأنثى} حتى تنقلب الموازين فيها رؤوساً على أعقاب!
{الخَنْساء} لقبٌ أُنثويّ يشير إلى الشعرية النسوية البكائية، في مقابل الشعرية الذكوريّة الفحولية. وليس على القارئ لكي يدرك هذا البُعْد إلاّ أن يرجع إلى صورة {الخنساء} طبعاً في القصيدة الجاهلية التي {ضَيَّعَتْ الفرير}، حسب (لبيد بن ربيعة) في معلّقته؛ ليدرك مغزى تلقيب تلك الشاعرة ب{الخنساء}. فلقد مثّلتْ (الخنساءُ = البقرة الوحشيّة، أو النعجة من المها) معادلاً رمزيّاً للثور الوحشيّ، إذ تُعدّ رمزاً من رموز الشمس لدى الجاهليين يقابل الرمز القمري (الثور الوحشي). والعرب في الجاهلية ولا فخر! كانوا يتصورون أنفسهم وآلهتهم قطيعاً من البقر الوحشي، ولم يخلصهم من هذه التصورات الحيوانية إلا الإسلام، لكنهم سرعان ما عادوا طيّب الله ثراهم! إلى {ثوابتهم} القديمة! وقد عبّر الشاعر الجاهلي الذَّكَر عن فحوليته الشعرية والحياتية من خلال تشبيه ناقته بالثور الوحشيّ، بنضاله، الذي يُصَوَّر بانتصاره أملاً يحفز على الكفاح من أجل غدٍ أفضل. ويستند هذا على عمق ميثولوجيّ، أسطوري، في ثقافتهم يتعلّق باعتقادهم أن المهاة نظيرٌ من نظائر الشمس المقدسة؛ ولذلك سمّوا عين الشمس {مهاة}، كما سموها أحياناً ب{الإلاهة}. (انظر: ابن منظور، لسان العرب، (غزل). وقارن: جواد علي، (1973)، المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام (بيروت: دار العلم للملايين)، 6: 50 00؛ زكي، أحمد كمال، (1979)، الأساطير: دراسة حضارية مقارنة (بيروت: دار العودة)، 83؛ نصرت عبد الرحمن، (1982)، الصورة الفنية في الشعر الجاهلي: في ضوء النقد الحديث (عمّان: مكتبة الأقصى) ، 114 120 ). ومن جهة أخرى كانت هنالك علاقة أسطورية بين المرأة والمها، ليس للصفة الأنثوية في الاثنتين، بل لأنهما كانتا من النظائر الرمزية للشمس في الطبيعة، إلى جوار: الغزال، والحصان، والنخلة، والسَّمُرة، وغيرها. (انظر: البطل، علي، (1983)، الصورة في الشعر العربي حتى القرن الثاني الهجري: دراسة في أصولها وتطورها (بيروت: دار الأندلس)، 57).
إن الوعي بالمفتاح الميثولوجيّ للمهاة الخنساء يساعد في فهم دلالة اللقب الذي أُضفي على الشاعرة تماضر بنت عمرو، لا على أن ذلك تشبيه جماليّ كما هو التعليل الدارج، المنشغل بصورة أنفها وأرنبته لكن على سبيل اللقب الرمزي الأنثوي الشمسيّ في مقابلة لقب (الفحل) الذكوريّ {الثوريّ} القمريّ. (وانظر: الفَيْفي، عبد الله، (2001)، مفاتيح القصيدة الجاهلية: نحو رؤية نقدية جديدة (عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا) (جدة: النادي الأدبي الثقافي)، 68 00).
أمّا لماذا اختاروا تلقيبها ب(الخنساء) دون لقب (المهاة)، فذلك للسبب نفسه الذي جعل لبيداً يسمي في معلقته البقرة الوحشية ب:
(خنساء) ضيّعت الفريرَ فلم يرمْ
عُرْضَ الشقائقِ طَوْفُها وبُغامُها
سلمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنازعَ شِلْوَهُ
غُبْسٌ كواسبُ لا يُمَنُّ طَعامُها
وهي صورة شعرية رمزية نمطية، تتردد في القصائد الجاهلية، في مشهد من توحّد المهاة وحزنها على فقْد جؤذرها الذي اقتنصه الصائد، ترد في شعر علقمة، والأعشى، بالإضافة إلى لبيد، وغيره.
على أن لبيداً قد خرج عن النمط التقليدي لصورة الخنساء الثكلى ليُسقط عليها رحلة الثور الوحشي النمطية، في صراعه مع كلاب الصائد.
مهما يكن من شيء، وعلى الرغم من فقدان كثير من تراث العرب القديم ممّا كان يمكن أن يساعف على وعيٍ أوضح بتاريخ المفردات اللغوية وجذور الثقافة العربية فإن جملة القرائن السابقة تجعل الدارس يرى وراء لقب (الخنساء) ما لم يره أحدٌ من القدماء فضلاً عن المحدثين.
لقد لَقَّب الخنساء بهذا اللقب أصحابُ تلك الثقافة الجاهلية نفسها، الذين كانوا يضربون ب{الخنساء ضيّعت الفرير} مثلاً للضعف الأنثوي والانكسار المصيريّ في مواجهة صروف الدهر، و{المنايا التي لا تطيش سهامها}. وهو ذات المعنى الذي رأوه في هذا الصوت الشعري الأنثوي المنكوب الباكي: صوت الشاعرة الخنساء. وعلى الرغم من ذلك، فهو ضعف وانكسار منتصرٌ في النهاية انتصار الخنساء في معلّقة لبيد بن ربيعة، الذي يكسر به الشاعر اليأس من جدوى تحدّي الظروف المحيطة، مهما بلغ عدم التكافؤ بين قوتها ووهنه.
لقد اعتقد العرب في أن الشِّعْر ذكوريٌّ بالطبع والضرورة، وأن فحولية الشعرية قرينة فحولية الذُّكورة. والشِّعر ليليّ قمري، لا نهاريّ شمسيّ. وقد ألمح إلى هذه العقيدة أبو النجم العجلي لمّا قال قوله المشهور:
إنّي وكلّ شاعرٍ من البَشَرْ
شيطانُه أُنثى وشيطاني ذَكَرْ
ولكن ماذا عن الشاعرة؟ أشيطانتها أنثى أم شيطانها ذكر؟! وما تغني الشياطين على أيّة حال في هذه الحال؟!
ولئن كُنّا قد رأينا في مساق مضى في تلقيب علقمة بالفحل لقبًا فنّيًّا، فإنهم لم يمنحوه ذلك اللقب بمعزل عن دلالته الجنسية. ولقد نصّوا على هذا في إشارتهم إلى دور الجانب الفحولي الذكوري في انتصار أُمّ جندب له على بعلها امرئ القيس، ومن ثَمّ نكاحه بها، واستحقاقه لقبه، كما يشير ابن قتيبة. كيف لا وهو القائل في شعره: {إنه بصير بأدواء النساء طبيب}! هذا بالإضافة إلى أنها قد تمثّلتْ في شعره على المستوى الفنّي خصائص فحوليته تلك.
وهو السبب نفسه الذي اكتسب به كذلك (جران العَوْد) لقبه. فلقد لُقّب به ليس لأنه كرّر ذكر {جران العَوْد} في شعره فحسب؛ ولكن لأنه كان أيضاً يشير إلى تخويف امرأتيه بالضرب بسوط من جران عَوْد. فأصبح بتهديده الفحوليّ ذاك أهلاً لديهم لأن يكون جران فحلٍ عَوْد، وأن ينال لقبه الرمزي، تأميناً على قوله بما يحمله من موقفٍ، وافق رأي المتلقّين، من أن الزوج ما ينبغي له أن يكون سوى جران عَوْدٍ مع زوجاته. غير أن جران العَوْد قد ظلّ لقباً فحوليّاً اجتماعيّاً، ولم يتجاوز إلى ما تجاوز إليه لقب (الفحل) من دلالة على الفحولية الاجتماعية والشعريّة معاً.
وللحديث صلة
**مقام
.. صديقةَ شِعْري.. أَبِيْنِي، حرامٌ!
أَبِيْنِي، فما كنتُ يوماً نبيّا!
لأعلم في أيّ نجمٍ هطلْتِ ،
وأيّ عيون المَهَا أَتَفَيّا ؟!
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved