الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 18th April,2005 العدد : 102

الأثنين 9 ,ربيع الاول 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم 15 (المستحيل بعينه!)
د. عبد الله الفَيْفي
1
وقف بنا المساق الماضي على مفترق الطرق بين القِيَم العروبيّة وما قد يُتخذ له منها من لبوس إسلامي. فأشير إلى أن مما يكشف عن المنزع المُعْلي من الإرث القيمي العربي المحكوم لدى العرب قديما بالمصلحة المادية والمنفعة الذاتية أن ترى (موسوعة القِيَم ومكام الأخلاق العربية والإسلامية)، (الرياض: دار رواح، 1421هـ = 2000م) في أثناء الاستشهاد بنص يعبر عن منظور مثالي إسلامي تحرص على إحاطته بسياج يطوعه لمنظور قيمي عروبي خاص. وذلك مؤشر جلي على أن مثالية القيم التي أراد لها الإسلام أن تسود ما تزال لدينا تتنازعها ميولات يمكن القول إنها تعود في بعضها إلى قِيَم ما قبل الإسلام. فلقد جاء استشهاد (الموسوعة) في مقدمتها النظرية (1 : 31)، من موسوعة أخرى هي: (موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم)، (1998)، بإشراف صالح بن عبدالله بن حميد، وعبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن بن ملوح، (جدة: دار الوسيلة)، على النحو التالي:
(وقد حدّد بعض الباحثين طبيعة الأخلاق الإسلامية زاعماً (أنها لا تصدر عن مصلحة مؤقتة أو منفعة ذاتية، والأخلاق (في رأيه) تعتمد على أصل الشعور بها عند الإنسان، بحيث يترجم عنها في صورة أفعال أو انفعال أو لفظ.. ولهذا تتحقق كرامة الإنسان ويتهيأ بها للعمل الصالح المحكوم بسياج العقيدة الصحيحة). والخلق السمح والأريحية التي تقرب الإنسان من ربه ومجتمعه وترفع شأنه وتعلي مكانته).
فالقارئ هنا يلحظ هذا التحفظ على (نضرة النعيم) من خلال عبارة (زاعماً) وعبارة (في رأيه)، حتى لقد أُقْحِم احتراز (في رأيه) في صلب النص المقتبس نفسه. مثلما ذُيل الاقتباس بمعطوفات، حول (السماحة) و(الأريحية)، وكأنها من الاقتباس نفسه. ودلالة هذا تتعدى مسألة التعامل العلمي مع نص مقتبس إلى التعامل مع الفكرة نفسها، حيث يتكشّف التعامل القلق مع النصّ عن قلق في التسليم بالفكرة القيمية التي تضمّنها النص. مع أن ذلك الاقتباس لم يعد في مثاليته الإسلامية منطوق الآية الكريمة، على سبيل المثال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا . إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} (9 10) سورة الإنسان. كما لم يَعْدُ ما نسبته موسوعة (نضرة النعيم) إلى (الجاحظ(1) وهو ما أشارت (موسوعة القيم)(2) إليه بنفسها حينما ذهبت إلى أن (الخُلُق هو حال النفس، بها يفعل الإنسان أفعاله بلا روية ولا اختيار، والخُلُق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعاً، وفي بعضهم لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد). أو قول (مسكويه)(3) كذلك: (الخلُق حال للنفس، داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رويّة، وهذه الحال تنقسم قسمين: منها ما يكون طبيعياً ومن أصل المزاج..). ولا منافاة بين قسمي (الطبع والتطبّع)، بيد أن الثاني هو ميدان ترويض الأول لإكسابه سلوكيات قيمية جديدة أو لإعادة النظر في بعض ثوابت السلوكيات.
بل لقد أعقبتْ (موسوعة القِيَم) (1 : 31) الفقرة التي اقتبستها عن موسوعة (نضرة النعيم) بفقرة أخرى تقول: (وعلاقة الدِّين بالفضائل كلها مسلمة وبدهية، كدنا نتجاوز عنها). غير أن للقارئ أن يرى: أن (المسلّم البدهيّ) الذي تكاد تتجاوز عنه (موسوعة القِيَم) كما تتجاوز عنه القيم العربية ذاتها هو في حقيقته تجاوز عن (غير البدهي) ولا (المسلّم به) في الممارسة الحياتية، حتى من بعض من يُسَلِّم به من الناس في المستوى النظري الصرف. ومن ثم فلا يبدو القارئ في حاجة إلى أن يكون شديد الفطنة كي يلحظ ذلك القلق الذي كان يكتنف خطابه الموسوعة أحياناً في تطرقها لعلاقة القِيَم العربية بالقِيَم الإسلامية، وإن حاولتْ التخلّص من تجلّيه بنكرانه و بتجاوزه، والزعم أنه من المسلّمات.
2
وفيم مقابل القلق القيمي بين العربي والإسلامي، لا بدّ أن يلحظ المستقرئ في خطاب القِيَم وبغير قليل من التوقع ذلك القلق الذي يقع فيه ذلك الخطاب بسبب تمزقه بين خطاب تقليدي ثبوتي، وخطاب حضاري معاصر. فالأول يجذبه إلى تصوير الثقافة العربية في معزل عن الثقافات الأخرى، وتصوير الأمة العربية وكأنما هي نسيج وحدها في الأمم. والثاني يقذفه، وتحت العنوان نفسه، الذي يساير ضمنه الخطاب السابق، إلى القول مثلاً كما في (موسوعة القيم): (المحاولة التي نحاولها في هذه الموسوعة (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق) (هي) لربط النسق القيمي العربي بالأنساق العالمية والدولية في سباق العولمة)(4). فأين هذا الزعم من ذلك التشدد السابق، والمناقش في مساق مضى، المفزّع من (اهتزاز الثوابت)، والذوبان في حُميّا طوفان التقدم الفكري والمادي الغربي)(5). إنه خطاب يقف على طرفي نقيض، بين الإفراط والتفريط، ليعرب عما تقدّم من القلق القيمي في واقع الثقافة العربية، بين شعارات موروثة وضرورات قائمة. قلق يجعله يستأنف قائلا: إنه (كان علينا، نحن الذين لا نزال نعايش القيم بعبق الماضي.. أن نحذر من أن تكون هذه المعلومات (المعلومات الراشحة عن وسائل الاتصال الحديثة) حاجزا بين النشء وبين قيمه الموروثة أو المعتادة، وأن نحميه من طغيان قيم الغرب، الذي قدم لنا هذه الوسائل من التقنية دون النظر إلى موروثاتنا وقيمنا، التي درجت عليها مجتمعاتنا أجيالا وأجيالا)(6). إلى نحو ذلك من الكلام؟ لكأن الغرب إذن كان ملزما بمراعاة (موروثاتنا وقيمنا) فيما ينتج ويطرح في الأسواق! بل كأن الحضارة الحديثة هي حضارة الغرب وحده دون الشرق، وكأن وسائل التقنية تَفِدُ علينا من الغرب وحده لا من الشرق كذلك. وهو ما يعبر عن قيمة العداء التقليدي الشرقي للغرب، من حيث هو غرب. ومن هذا المنطلق، يأتي تعليق كل سلبية في المجتمع العربي على (طغيان قيم الغرب والوسائل التقنية التي قدمها إلينا). وهذا المستوى من الخطاب إنما يتبنى عُقدة إيديولجية رائجة في الوسط الشعبي العربي العام، لا تصلح بحال سبيلا لمناقشة الإشكاليات القيمية على أساس علمي، كما لا تصلح وسيلة تأثير وتغيير في المعترك القيمي المعاصر، الذي لم يَعُدْ يكترث بالإنشائيات والفضفاضيات، التي سئم اسطواناتها منذ بدايات العصر الحديث. بل إن هذا الخطاب نفسه قد بات بمثابة دعاية مجانية للثقافة الغربية من قبل ثقافة أخرى غير منتجة، تستهلك ثقافة الآخر ثم تلعنه! إذ سيسأل الطفل العربي نطقاً أو صمتاً خطابنا ذلك المتعالي: ماذا أنتجتْ عبقرية الثقافة العربية في العصر الحديث من تقنية بديلة تغنيه عن (طغيان قيم الغرب والوسائل التقنية التي قدمها إلينا؟!) ثم كيف له أن يتعامل مع تلك الوسائل التي لا غنى له عنها ثم نطالبه بأن لا يتأثر بالقيم الثقافية التي تحملها؟! لتكاد ترى إذن لسان ذلك الطفل يلوح ساخرا من خطاب يريد أن يحرمه من الأقنية الفضائية، وجهاز (الحاسوب)، و(البلي ستيشن Play Station)، و(القِيْم بُوي Game Boy)، تحت شعار الحماية من (طغيان قيم الغرب والوسائل التقنية التي قدمها إلينا). وذاك هو المستحيل بعينه!
(والحديث مستمر).
إحالات:
1 موسوعة نضرة النعيم، 1 : 61 وأحالت هذه الموسوعة إلى: (الجاحظ، (1989)، تهذيب الأخلاق، (؟: دار الصحابة للتراث)، 12). إلا أننا لم نقف على كتاب للجاحظ بذلك العنوان.
2 انظر: 1 : 34
3 (1966)، تهذيب الأخلاق، تح. قسطنطين زريق (بيروت : الجامعة الأمريكية)، 31
4 موسوعة القيم، 1 : 77
5 م.ن. 1 : 19
6 م.ن 1 : 85


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved