Culture Magazine Monday  18/06/2007 G Issue 203
فضاءات
الأثنين 3 ,جمادى الثانية 1428   العدد  203
 

مساقات
(فِتْنَة): الزمان واللغة ! (7-7)
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

- 1 -

أشرنا في المساق الماضي إلى أن لشخصيّة فِتْنَة - بطلة رواية الكاتبة أميرة القحطاني، بعنوان (فِتْنَة)، (بيروت: دار العلم للملايين، مارس 2007) - في ثباتها وعدم تناميها، نظائر واقعيّة من الناس، ممّن لا تكاد تُغيّرهم تجارب الحياة، في مقابل آخرين سريعي التأثّر والتحوّل والتطوّر. ولذلك كله لا غرابة أن تبدو شخصيّة فِتْنَة شخصيّة مُسَطَّحة، لا نامية، إذ لم تشهد نموّا يُذكر عبر كل تجاربها ورحلاتها المختلفة، حتى لقد عادت في آخر التعب إلى النقطة التي انطلقت منها في عالمها، وكأن شيئًا لم يكن. فهل يُعدّ هذا عيبًا فنّيًّا في بناء نصّ كهذ؟

كلاّ، فتلك هي شخصيّة فِتْنَة النمطيّة، ولو صوّرتها الكاتبة بغير ذلك لكانت اصطنعت شخصيّة أخرى غير فِتْنَة، ذات تركيبة نفسية واجتماعية متكلّفة. ممّا يعني أن احتكام الناقد إلى معايير فنّيّة متوارثة، قد يحمله على أن يفرض على النص والواقع ما يتنافى مع طبيعتهما، وهل الرواية في مختلف ضروبها إلا بثّ واقعيّ لحالات إنسانيّة، مختلفة الأمزجة والقابليّات؟!

-2-

وإذا كنّا قد رأينا حال الاضطراب المكاني في الرواية، فإن زمنها كذلك قد بدا متأرجحًا في زمن مفتوح، منذ الستينيّات فالسبعينيّات من القرن الماضي، مرورًا بالجهاد الأفغاني، ووصولاً إلى ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أوان صراع الأفكار بين مفهومي (الإرهاب والجهاد). بدليل ما مرّت به شخصيّة عبدالعزيز من طور التأثر بالمدّ الشيوعي، قبل أن ينقلب حاله ليذهب مجاهدًا إلى أفغانستان. وكذا بدليل خزانة فِتْنَة التي عادت في نهاية الترحال إلى مقتنياتها فيها من الصور، لتُخبرنا أنها تحوي صورها الثمينة لأعلام، كجيفار، وسعاد حسني، ونادية لُطفي، وعمر الشريف، وأحمد مظهر، وجمال عبد الناصر، الذي - كما قالت - أحبّته لأنه (أراد تحقيق حلمنا بالوحدة العربيّة). ومن هذا يُستنتج أن ذلك هو الزمن الذي عاصرته فِتْنَة، ومن ثم فهو الزمن الروائي؟ وكما هو بيّن، فإنه زمن طويل، طولَ سماء تلك النجوم، التي أَفَلَ جُلّها - إن لم يكن كلّها - من سماء جيل اليوم، أو حتى الجيل الذي قبله، وذاك ما لا يحتمله عُمْر فتاة معاصرة، غَضّة، كبطلة الرواية.

وإلى ثغرات كتلك، فقد حفل النصّ بخطاب فِتْنَة، الذي كان موكلاً بأن يعكس في كثير من الأحيان صورًا انتقائيّة، وغير دقيقة، يتبنّاها حول أماكن أو مجتمعات أو فئات، تَنْقِمُ البطلةُ عليها، أو لا تراها إلا بعَشًى غالب. وهذا ما وَسَمَ النصّ في بعض صفحاته ب(دوغماتيّة)، أي جَزْمٍ بوجهات نظرٍ مبيّتة - ثابتة، أو عتيقة - مستمرة، مسلّم بها دون تمحيص أو تريّث، يترامى العمل برمّته لبثّها وترسيخها. وفي هذا السياق، كأن الأماكن - ولا سيما في الحج - إنما انتُقيتْ عن عمدٍ، لتصفيةٍ فكريّةٍ على صعيد الواقع والسلوك الاجتماعي والدينيّ، من خلال إطار مكانيّ يلمّ متنافر ما أزمع النص تسليط الضوء عليه من متناقضات. يتبدّى ذلك - فضلاً عمّا سبق - من موقف فِتْنَة من رجال الهيئة، مثلاً (ص8، 28)، أو من تلك الفتاة المخوّلة بمنع المتمسّحات بقبر الرسول في المسجد النبويّ (ص20)، أو من وصف الوضع العامّ في المشاعر المقدّسة. كل ذلك في أسلوب خطابيّ محتشد بتصوّرات سماعيّة، وحمولات إعلاميّة، تتجافى فيه الذات الساردة كثيرًا عن الوعي بالواقع الموضوعيّ لما تخوضه من جدليّات، حوّلت بعض صفحات الرواية إلى شِبْهِ مقالات، ذات انحياز واضح ومواقف ناجزة، وإنْ أُديرت في شكل حوارات بين شخوص. حتى ليمكن القول إنه لولا تكسير ذلك النّفَس الحانق المرتاب - الذي ما تنفكّ البطلة تُرافع به، معبّرة عن حالها، مدافعة عن قناعاتها - عن طريق ما انتهجته الكاتبة ببراعة من قفزات تذكّريّة، وارتجاعات سرديّة، لاستحال العمل إلى كتاب في جَلْد الواقع والمجتمع. وكأن الكاتبة - وقد وعتْ ذلك المأزق، مدركة خطورة الحضور الصارخ لخطاب فِتْنَة المؤدلج على عملها الروائي - قد لجأت إلى إذابة حدّته في معمعة التداعيات وتهويمات الذاكرة المتفلّتة، عبر خارطة شاسعة من الزمان والمكان.

ولتلك المقصديّة إلى محاكمة الواقع يمكن أن نعلّل اختيار اسم (فِتْنَة) نفسه، فالفتّان هو الشيطان، والفتنة أشدّ من القتل، وهي مرتبطة في الثقافة العربية بالدنيا، وبالنساء، وبالجَمال، وبالحرب، (وكلّ شيء أُدخل النار فقد فُتِن). (انظر مثلاً: الزمخشري، أساس البلاغة، (فتن). وكل تلك الحقول الدلاليّة تتوارد إلى ذاكرة المفردة التي اختارتها الكاتبة بحِرْفِيَّة اسمًا لبطلتها، ومن مجموعها شكّلت ملامحها. فما فِتْنَة إلا بُركان من فِتْنَة الشكّ، والأسئلة، والقلق، والتمرّد، والتعرية والنقد اللاذع. ووراء هذه الكلمة (فِتْنَة) يكمن مَغْزى النصّ كله، فهو فِتْنَة أسئلة، حتى إن الاستفهام ليشكّل ثورةٌ عارمة تقفز علاماتها الحادّة في كل فقرة من الرواية، إن لم نقل في كل سطر.

-3-

وممّا يُذكر لأميرة القحطاني أنها كتبت روايتها بلغة عربيّة جيّدة إجمالاً. تصل أحيانًا مستوى شاعريًّا، من نحو قولها: (شعرتُ ببرودة تتسلّل إلى عظامي، تَجَمَّدَ كل شيء في داخلي وسَكَن، ضحكتْ عَيْني فتواعد بها بريقُ الدنيا كله واجتمع، تشابكت أهدابي بالأيدي ورقصت حتى الثمالة، يا لها من لحظة عانق بها الموت روح الحياة وانتشَى). (ص 90). ولا غرو، فلقد قال (وليم فوكنر William Faulkner) في هذا الصدد، ما معناه: (لربما كانت بداية كل روائي هي طموحه إلى أن يكتب شعرًا!) غير أن نصّ (فِتْنَة) - مع ذلك - لم ينج من أخطائه اللغوية والنحويّة والكتابية، التي يُعزى بعضها إلى أسباب طباعيّة. والحقيقة التي يَحْسُن تأكيدها هنا أن الأدب فنٌّ وصناعة، له مادته المخصوصة، كأي فنّ وصناعة، ومادة الأدب: اللغة، وعدم سلامتها يجعل المولود يبدو في هيئة رثّة، كأي عمل تتفلّت مادته وأدواته من بين أيدينا! حتمًا ليس بالهوس الكتابيّ حول أفكار اجتماعيّة - دونما تمكّن لغوي - يُبنى العمل الروائي! ولم تكن لغة رواية «فِتْنَة» كذلك بإطلاق، لولا أنها لم تكن المثالية في هذا الميدان. على أن الكاتبة قد اعتمدت العاميّة، في الحوار تحديدًا. أفذلك عن ضعف لغوي، أم هو انتصار للعاميّة، أم بدعوى الواقعية؟ لعل التعليل الأخير أرجح، وإن لم يكن مسوغًا مقبولاً. ذلك أنّ رسالة الأدب تظلّ أسمَى من أن تُبتذل لغته ابتذال المحكيّة اليوميّة، من حيث إن رسالة الأدب الأُولى: التسامي باللغة، في كل مستوياتها، عن الكلام الاعتيادي، وليس الأدب محض وسيلة لإيصال قضايا إنسانية، أو ولوجٍ إلى حلبة صراع الأفكار. ولا تعارض بين ذلك والواقعيّة بحال؛ فالواقعيّة لا تعني نقل الحياة اليوميّة حرفًا بحرف، بكل رتابتها وتبذّلها، إذ لو كان الأمر كذلك، لسقطتْ طبيعة الأدب أصلاً - بما هو أدب - له لغةٌ من اللغة، وله طبيعةٌ مائزة عن عاديّ الكلام والحياة، كما له وظيفته العليا التي ترتفع عن هاجس الإثارة أو الإبلاغ أو الإمتاع؛ من حيث إن (الفنّ الحقيقي) - حسب (أورتيجا) - (فن غير شعبيّ)(1)). بل لو كان الأدب مطيّة كتلك، إذن لسقط روائيّ نوبل نجيب محفوظ في هذا المضمار، إذ أَبَى إلاّ أن ينقل أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة بلسان عربيّ مُبِيْن، يختلف في كثير عن لسان الحياة اليوميّة، من حيث كان يعي طموحه إلى أن يُنشئ أدبًا عربيًّا خالداً، لا (حدّوثات). ومثله كثيرون طوّعوا العربيّة باقتدار في أعمالهم الروائيّة. ومع هذا، لم يخل التنويع اللهجيّ في رواية (فِتْنَة) من طرائف جاذبة، وربما مفيدة لباحث لغويّ وثقافيّ، لاحتوائها على لهجات عربيّة شتّى، تتلوّن بنكهات مختلفة، من الخليج، إلى الحجاز، إلى سوريا، إلى مصر، إلى عسير.

وختامًا، فإن رواية «فِتْنَة» عمل لافت، قمينٌ بالقراءة، بما له وما عليه. وباكورة تنمّ عن قلمٍ واعد بما هو أجمل وأنضج وأرقى. أمّا من الناحية النفسيّة والاجتماعيّة، فهو حقًّا جدير بالدراسة والتأمّل، بما يحمله من صدقٍ نفسيّ في بثّ مشاعر فتاة حيال نفسها، ومجتمعها، وثقافتها، ومحيطها المعاصر.

***

(1) انظر مثلاً: بوث، البروفيسور وين، (1994)، بلاغة الفن القصصي، ترجمة: أحمد عردات؛ علي الغامدي، (الرياض: جامعة الملك سعود، كلية الآداب، مركز البحوث) 141

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض * (عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة