الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 19th September,2005 العدد : 123

الأثنين 15 ,شعبان 1426

صدى الإبداع
د. سلطان سعد القحطاني

كانت العواصم العربية، التي سبقت بقية أجزاء الوطن العربي في التعليم والتواصل مع البلاد الأجنبية في العقود المبكرة من القرنين التاسع عشر والعشرين، تمثل لنا نحن جيل السبعينيات الميلادية، الذين ظهرنا على الحياة الثقافية المبهرة، من خلال الجرائد العربية التي كانت تصلنا من تلك البلاد، والمؤلفات التي كنا نشتريها من المكتبات التجارية القليلة في العدد الكبيرة في العناية بجلب الكتاب العربي والمترجم إلى مناطق المملكة المترامية بين الشرق والغرب من الجزيرة العربية شيئاً مهماً، كنوع آخر من الحياة. وكان أساتذتنا الكرام في المرحلة الثانوية ينيرون لنا مشاعل المعرفة عندما يتحدثون عن كُتّاب لم ترد أسماؤهم في مناهج الدراسة، بل إن مناهج الدراسة التي نتعلم منها النحو والإملاء وبعض أصول الدين لا تمثل لنا أكثر من مفاتيح تقليدية في ساحات المعرفة الأدبية والنقدية والعلمية، لكننا نعترف بفضلها وفضل أساتذتنا من الابتدائية إلى نهاية الدكتوراه، بيد أن التشجيع على القراءة وكثرة ترديد أسماء أساطين النهضة الفكرية في العالم العربي كانت وما تزال محفورة في ذاكرة كل منا، وكنا نبشر أساتذتنا أننا قرأنا للعقاد الكتاب الفلاني، ولطه حسين والمنفلوطي وشكري... وغيرهم، بل أكثر من ذلك أننا نتباهى بقراءة كتاب لم يقرأه زميل آخر.
كانت قيمة الشاب الخريج في ذلك الزمن كبيرة في أسرته، وقد يكون الأول في هذه الأسرة، بل ربما يكون الوحيد من بين أفرادها، وكان يتباهى بتحصيله العلمي. أذكر وأنا في المرحلة الابتدائية، في قريتنا الصغيرة في شمال الأحساء كيف تكون سعادتي عندما يطلب مني أحدهم قراءة رسالة جاءته من ابنه في الكويت أو البحرين أو أي مكان آخر، وأضيف إليها سعادتي بكتابة الرد، وأسعد بالشكر والامتنان على هذه الخدمة، كما هي الخدمة التي أقدمها في كتابة سند دين على فلان، أو اتفاقية بيع محصول زراعي بين فلاح وتاجر تمور أو خضار أو بدوي اشترى محصولاً قليلاً من التمر إلى أجل مسمى، غالباً ما يكون بعد الربيع، يسدده من محصوله من الدهن أو الصوف أو بيع بعض من أغنامه أو إبله.. وكان القلم في جيب كل منا يمثل علامة العلم، وحبذا لو سال منه بعض الحبر!! حتى يكون علامة تميزنا عن غيرنا من الناس، ولعل البعض يتفكه على ما يسمعه من الشعر العربي الذي كنا نحفظ منه الكثير، ويمثل للمستمع نوعاً من غرابة الألفاظ التي لم يعهد سماعها من قبل، خاصة ما يسمعه من ألفاظ الشعر الجاهلي.
وقد يكون السؤال مشروعاً، كيف كان الاحتفاء بالمتعلم في ذلك الوقت، بينما يتخرج الطالب من الجامعة اليوم ولا يجد هذا الاحتفاء الكبير بمولد خريج في العائلة؟؟ وقد يكون الجواب بسيطاً للغاية، فكثرة الخريجين لم تترك مجالاً لتميز أحد عن غيره، من ناحية، ولم يعد العلم مصدر فخر للعائلة، ولم يعد الكتاب مصدر المعلومة الوحيدة، كما كان في زماننا، بيد أن هناك من طلاب الجامعة الكثير من المتابعين للمقالات الأدبية والعلمية، لكن العدد زاد على المعدود من مصادر الثقافة. وباتساع الرقعة العلمية في العالم العربي لم تعد العواصم العربية ذات الثقافة المبكرة تلفت النظر كما كانت في زماننا، ولم يعد ذلك المثقف الذي يسرق الأنظار إليه، من بيروت أو القاهرة، الوحيد في ميدان الثقافة العربية، ولم تعد العاصمة الثقافية تنشر الثقافة كما كانت من قبل، وقد كانت المسلسلة الإذاعية تبهرنا (سواء كانت باللغة العربية أو باللهجة المصرية، على وجه الخصوص) نلتقطها من خلال أمواج الأثير، ونتسابق في تسجيل أغنية أم كلثوم من إذاعة صوت العرب، أو ذلك المسلسل العربي من التاريخ بأصوات كبار الممثلين اللبنانيين، الذي نحرص على متابعته بعد صلاة العصر من إذاعة الرياض. وأذكر من أشهر المسلسلات العربية مسلسل (زيد بن مزيد الشيباني).. وقد شكل لنا ظهور التلفاز نوعاً جديداً من الثقافة، من خلال بث المسلسلات العربية والمحلية، ونقل إلينا الحياة من مصر وبلاد الشام (وكنا نظن أن هذه هي الحياة العامة) لكننا اكتشفنا فيما بعد أن ذلك فعلا من أفعال التصوير السينمائي، وكنا نتمنى أن نعيش حياة ذلك الممثل الوسيم، في لباسه الأنيق، والسيارات الفارهة التي يركبها والقصر المنيف الذي يطل علينا من شرفاته وغرفه الراقية، أو ذلك المغني الذي يتجول في تلك الحديقة الغناء، تهرب من أمامه فتاة حسناء وهو يترنم من حر الجواء، أما ذلك الطبيب الأنيق الذي يعالجنا فكنا نحسده على ياقته المكوية بعناية لم نعرفها بعد، بل ليتنا نلبس في يوم من الأيام مثل معطفه الجميل، أما أستاذنا فكنا نحسده على كل شيء من أناقته وثقافته وسلوكه الحضاري ولغته الراقية، وبين هذا وذاك نتمنى زيارة هذه البلاد أو تلك، كان هذا حلم كل منا، وبعد تخرجنا بعد قليل من السنين أتيحت لي فرصة السفر إلى القاهرة، وكنت بصحبة اثنين من الزملاء كانت لهما معرفة بهذه العاصمة التي ابتلعتني منذ أول وهلة، كما ابتلعتني بيروت قبلها بسنتين، وزادت دهشتي عندما لم أجد ما كنت أشاهده في أفلام التلفاز والسينما من ممثيلن وطبقة مختلفة عما عندنا، أما ما كنت أبحث عنه من كتب فقد أخذني أحد الزملاء إلى سور حديقة (الأزبكية) حيث تنام الكتب القديمة بأسعار مغرية للغاية، اشتريت منها كماً لا بأس به بما يساوي قيمة كتابين أو ثلاثة (عندنا) على أعلى تقدير، وما أجمل بعض الصدف ولو كانت مؤلمة، ففي ليلة من الليالي القاهرية، أصبت بألم شديد في خاصرتي اليمنى، فنقلني أحد الزملاء إلى مستشفى ينام فيه زميلنا الآخر، الذي يعالج من العقم، وكان سيخرج في اليوم التالي، وقبلها كنا في زيارته.. كان الداء الذي ألمّ بي التهاب الزائدة الدودية، واستدعي الطبيب الجراح (وهو صاحب المستشفى) فأجرى العملية في نفس الليلة، وبعد الظهر هاتفني الزميل، يطمئن على حالتي ويسألني إن كنت أريد شيئاً يحضره معه، فطلبت منه إحضار واحد من الكتب التي اشتريتها قبل يومين، وجهاز الراديو الذي لا غنى لي عنه في كل مكان وزمان، وفعلاً أحضر الراديو ومعه كتاب، وكان كتاباً رائعاً حققه الأستاذ محمد علي صبيح، ولم يكن اختيار هذا الزميل مبنياً على معرفة في الكتب؛ فهو ليس من هواتها، فهوايته جمع المال، رجل تاجر لا يهتم بما أهتم به. وكنت أقرأ في الكتاب ولم تكن لي معرفة بمحققه، فهو ليس ممن اشتهر بالتحقيق، ويعود ذلك إلى قصور في معرفتي بالمحققين آنذاك. كل ذلك ليس بالغريب، الغريب عندما جاء ذلك الطبيب، بدرجة أستاذ في قصر العيني، يعودني ويطمئن على الجرح، وقد سعد بسرعة التئام جزء منه، وقال لكبيرة الممرضات كلمة لم أنسها إلى اليوم (شباب)، وكانت المفاجأة الكبرى!! فقبل خروجه من الغرفة الخاصة، التفت إلى الكتاب الذي نحيته جانباً عندما دخل الغرفة برفقة الممرضات، وتناوله وقال: أول مريض يشغل نفسه بالقراءة، ثم نظر إلى غلاف الكتاب، فترقرقت دمعة سالت على خده الأيسر، ثم خرج وتركني في حيرة، هل هو طبيب مثقف، هل كل هذا دهشة من مريض يقرأ كتاباً ويستمع إلى صوت العرب في أحد برامجه الثقافية؟ وبالمناسبة، كانت الإذاعة تبث تمثيلية بعنوان (جاموس حميدة) لم أحتمل الصبر دون أن أعرف السبب، فاتصلت بكبيرة الممرضات، وطلبت حضورها فوراً، وفعلاً حضرت، وسألتها عن سبب بكاء هذا الجراح، وعلمي أن الجراحين من الناس الجبارين؟ فقالت: السبب، هذا الكتاب الذي بين يديك محققه والد الدكتور عبدالله، ومات حين انتهائه من تحقيق هذا الكتاب. (مات يا عيني وهو ما شفش كتابه الذي تعب على تحقيقه، والدكتور عبدالله أول مرة يشوف هذا الكتاب). سألتها متى سيكون هنا غداً؟ فقالت عنده عملية بعد صلاة الظهر. وشكرتها وانصرفت. ثم عكفت على ذلك الكتاب ليلتي بكاملها، حتى انتهيت منه، وبعد أن خرج من غرفة العمليات كنت بانتظاره وسلمته الكتاب وعليه إهداء مني، كان الكتاب يقع في 230 صفحة من الحجم الصغير، قال لي في اليوم التالي (انتهيت من قراءة الكتاب ليلة البارحة).
كان ذلك الجيل مولعاً بالثقافة مهما كانت التخصصات، ومما بث الحزن في نفسي ما وجدته من شباب تلك العاصمة الثقافية، الذي لا همّ له بالثقافة ومثله الكثير في البلاد العربية، ولعل المناهج قد شاركت في هذا التجهيل ومثلها وسائل الإعلام المختلفة، التي لم تعط الثقافة حقها من بين البرامج الضعيفة والمسلسلات التي تدمر أكثر مما تعمر، وتقدم مواضيع مسطحة لا قيمة لها.
نقول هذا ونحن في عاصمة المملكة العربية السعودية وبقية المناطق والمحافظات التي تزخر بالكتب العربية بسعر لو قورن بما يصرفه الشاب على ملبسه ومأكله في المطاعم لما ساوى الربع، لكن مما يطمئن أن الكتاب الجيد لا يزال بخير في السوق الثقافية.. ولنا حديث عن العاصمة الثقافية، التي دعا إليها الأستاذ محمد عبدالله بودي في إحدى مقالاته، في الحلقة القادمة.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved