Culture Magazine Monday  19/11/2007 G Issue 223
فضاءات
الأثنين 9 ,ذو القعدة 1428   العدد  223
 

مساقات
التأريخ للعاميّة!
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

كثيرًا ما يخوض أنصار العاميّة - احتجاجًا لوجودها، وتسويغًا لاستمرارها- في التأريخ للعاميّة العربيّة، بنزوعٍ مستميت إلى تبرير الحاضر بالماضي، أو إلى ما هو أخطر، أي إلى تأسيس بدائل عن اللسان العربيّ الجامع، قابلة للاستقلال مستقبلاً. مع أن السؤال المتبادر طرحه على هؤلاء:

هل كانت عاميّة الجاهليّة كعاميّتنا اليوم بُعدًا عن اللغة الأدبيّة الواحدة؟ أين أدبها إذن؟ ألم تبق منه باقية؟ لقد بقيتْ بعض اللغات الميّتة، أو عاشت آثار منها. كما بقيت الاختلافات اللهجيّة العربيّة من خلال القراءات القرآنية، وفي بعض الشواهد النحويّة واللغويّة. حتى قيل بأن ليست لغة حِمْيَر وأقاصي اليمن بلغتنا ولا عربيّتهم بعربيّتنا. وجاء في كتاب (ابن السكّيت (ت244هـ)، (1970)، إصلاح المنطق، تح. أحمد محمّد شاكر وعبدالسلام محمّد هارون (القاهرة: دار المعارف بمصر)، 162) أن الأصمعي قال: (دخل رجلٌ من العرب على ملك من ملوك حِمْيَر، فقال له: ثِبْ- وثِبْ بالحِمْيَرِيَّة: اقْعد- فوَثَبَ الرجل فتكسّر، فقال الحِمْيَري: ليس عندنا عربيت، من دخل ظفار حمّر، قال الأصمعي: حمّر، تكلّم بكلام حِمْيَر). ونَسَبَ (ابن فارس (ت395هـ)، (1993)، الصاحبي في فقه اللغة العربيّة ومسائلها وسنن العرب في كلامها، تح. عمر فاروق الطبّاع (بيروت: مكتبة المعارف)، 54) القصة إلى زيد بن عبدالله بن دارم، وأضاف إن الملك كان على جبلٍ مشرف، فلمّا قال: (ثِبْ)، قال زيدٌ: (لتَجدني أيها الملك مِطواعًا!)، ووَثَبَ من الجبل. وسيقت الحكاية- أو المبالغة في تفاصيلها، في الأقل- للتأكيد على الفروق اللهجية بين لغة اليمن ولغة عرب الشمال، التي قد تصل إلى أن لغة حِمْيَر ليست بعربيّة: (ليس عندنا عربيت)! انطلاقًا من مقولة (أبي عمرو ابن العلاء): (ما لسان حِمْيَر وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيّتُهم بعربيّتنا)، التي ساقها (الجُمَحي (ت231هـ)، (-231هـ)، (1982)، طبقات الشعراء، تح. جوزف هل (بيروت: دار الكُتُب العلمية)، 29). إلاّ أن ذلك الشاهد الذي ساقوه من خلال حكاية «ثب» لا شاهد فيه. فليس إلاّ اختلافًا دلاليًّا في نطاق الفصحى. ثم إن (ثِبْ) في الحكاية من (ثَوَبَ)، لا من (وَثَبَ)، كما فهم اللغويون، وساقوا تلك الحكاية ليستنتجوا منها افتراق لغة حِمْيَر عن لغة عدنان. و(ثاب، يثوبُ، ثُبْ): عربيّة فصحى لا غُبار عليها، بمعنى رجَع وعاد إلى موضعه ومجلسه. ومنه مَثَاب البئر: مكان الساقي على فم البئر. والمَثَابَة: المُجتَمَع والمنزل. (يُنظر: ابن منظور، لسان العرب، (ثوب)). يقول (ابن مقبل) مثلاً:

أَلَمْ تَرَ أنَّ القَلْبَ ثَابَ وأَبْصَرَا

وجَلَّى عَمَايَاتِ الشَّبَابِ وأَقْصَرَا

وعليه، فاستعمال تلك الكلمة بمعنى: (اقعد، أو استرح، أو اهدأ) ليس بغريب الدلالة عن معاني مادة (ثَوَبَ)، حتى يُستنتج منها حُكم لغويّ تعميميّ بأن الحِمْيَريّة ليست كعربيّتنا. وهكذا فاللسان العربي وشعره كانت فيهما بعض الاختلافات اللهجيّة، ولكن في إطار الفصحى/ اللغة الأدبيّة. ولم يحفظ لنا التاريخ، لا المكتوب منه ولا المسموع، وجود أدبٍ عاميّ للعرب، على غرار أدبنا العاميّ اليوم الخاص بكل لهجة، والنائي عن الفصحى في بنائه الصرفي والنحوي والدلالي، كي يفرح التأصيليّون بأن العاميّة قديمة قِدَم العربيّة. وإنما نسوق هذا هاهنا جَدَلاً، وإلاّ فليس الماضي بحُجّة حق فيما يصلح لحاضرٍ أو مستقبل. غير أن الهوى غلاّب، وكل صاحب هوى أو اتّجاه يبحث عادةً عن متكأٍ من الماضي يسند إليه ظهره، لما للماضي من قداسةٍ في النفوس.

تلك لعبة أخرى من ألاعيب أنصار العاميّة، أو محسّنوها، أو ممرّقو التصالح معها، على الرغم من أن لا وثائق بين أيدينا على عاميّة جاهلية أصبحت لغة تداول وأدب. ولئن وُجدت الوثائق تلك فليست بحجّة في ميزان العقل ومسعى الأُمم إلى التقدّم لا التأخّر. إذ من قال إن اللغة بعد أن تتوحّد، وبعد أن تصبح لغة أدب، وحضارة، وأمّة، ودِين، وتوحّد سياسي، وثقافيّ، وعولمة معرفيّة، يُعقل أن يستدلّ ببداياتها البدائية منطلَقًا للعودة القهقرى إليها، أو التشبّه بواقع أهلها، كي تُسوّغ الانحرافات الناشئة عبر حِقب الجهل والتشرذم، ونتيجة عزلة الأوطان عن بعضها، وجراء العوادي من لغات أخرى؟! إن اللهجيّات الأدبيّة لتبسط المهاد اللغوي للقبيليّات، والمناطقيّات، والإقليميات، والانتماءات الضيّقة، على حساب الانتماء القوميّ التاريخي والجغرافي، الذي لا يعني العرب فحسب، ولكنه يعني المسلمين كذلك، بما أن اللغة العربيّة ليست لغة عِرق من الأعراق كاللغات الأخرى، بل هي لغة دين عالميّ. واللهجة- ثم اللغة- هما أساس الانتماء والهُويّة قبل أي أساس آخر. وما من انتماء إلا نشأ لهجةً في البدء، فأدبًا يمثّل تلك اللهجة وي كرّسها، يتبلور بعد حين إلى تراثٍ، ثم يصبح لغةً تتنائى عن جذورها القديمة، وصولاً إلى الانفصال بالكليّة عن جذورها. تلك مسيرة التاريخ، وسنن الله البدهيّة في المجتمع البشري، التي لا تبديل لها، لا تُحابي ولا تُجامل، وإنْ كانت لا تتمخّض عن نتائجها بالضرورة في جيلٍ أو حتى في عشرة، بيد أنها صيرورة ماضية إلى منتهاها العاجل أو الآجل، شئنا أم تظاهرنا بعدم المشيئة.

والمتتبع لما يُزعم من تاريخ الشعر العاميّ يدرك من خلال ذلك التاريخ نفسه، ومن بين شواهد شعره النادرة، أن عاميّة الشعر العربي تداعت في انحدارها المتواصل عن سويّة اللغة العربيّة جيلاً بعد جيل، بحسب حال الأُمّة، انقسامًا، وجهلاً، وعزلةَ قبيلة عن قبيلة، وإقليم عن إقليم، وحسب عروبة السلطان الحاكم أو عجمته في البلدان العربيّة، لتصل إلى أدنى مستوياتها عاميّة- توشك طلاسمها أن تستغلق على العربي نفسه من غير الناطقين بلهجتها!- في القرنين الأخيرين، أو بالأحرى منذ بدايات الألفيّة الهجريّة الثانية. وسأقدم هنا نموذجًا شعريًّا شاهدًا من القرن التاسع الهجري، لشاعر اسمه ناهش بن هريش- على غرابة هذا الاسم في حد ذاته!- نُشر في صحيفة «الرياض»، (السبت 24 رمضان 1428هـ = 6 أكتوبر 2007م - العدد 14348). وبالرغم ممّا يُلحظ من تحريف- شبه متعمّد- لرواية النصّ الشفهيّة، بل أحيانًا إلغاء لبنية الإعراب من النصّ المكتوب كي يظهر ملحونًا يسرّ السامعين، مثيلاً لعاميّتنا اليوم، فإن عربيّة النصّ ظلّت لا تَبْعُد بُعد عاميّتنا اليوم عن فصحاها. فالقصيدة على البحر الطويل، وأشبه في بنياتها بشعر أهل الجاهلية، أورد منها الأبيات الآتية:

يروعك يا (مناع) تكدير عيشِهِ

ومن ذاق لينًا عقب جوعٍ يؤالفُهْ

فنحن حمى طيبةَ سكّان دارها

وأهل جديدِ المدح منها وسالفُهْ

أيا طول ما أوقفتُ فيها بلوذع

كما (زيلع) خيل السيوف زعازفُهْ

خليليّ إنْ جئتم لتروون ماءه

رقاب المطايا فاشرفا لي مشارفهْ

وقولوا جزى الله العقيليَّ مانعًا

من الخير ما تذري له الريح عاصفهْ

ورواية النصّ كما ترى مضطربة، وربما حُرّف بعضها، فضلاً عن اضطراب ما نُشِر من القصيدة، وعن التعديلات التي اقتُرحتْ على بعض الكلمات، اعتقادًا أن المكتوب يجب أن يطابق المنطوق، وإنْ نشأ عن عيب نطقٍ أو تأثّرٍ بلهجة- ثم لغرضٍ آخر، وهو: أن يوافق النصّ ملفوظ العاميّة، بل ليساير الدارج اليوم على ألسنة العامّة. وعلى الرغم من ذلك كله فإن ملامح النصّ الباقية تشير بجلاء إلى لغة الشعر الدارج إبّان القرن التاسع الهجري، وأنها كانت ترقَى إلى مستوى قريب جدًّا من الشعر الفصيح. فكيف بما يُزعم عن عاميّة أدبٍ كانت في صدر الإسلام أو في الجاهليّة؟ «قل: هاتوا برهانكم، إن كنتم صادقين».

ولنا تواصلٌ حول مسؤولية المثقف في هذا المضمار.. (هذا إنْ كان مثقفًا لا مسقّفًا!).

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

(عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة