الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 20th February,2006 العدد : 141

الأثنين 21 ,محرم 1427

مساقات
زمن الجن والكتابة!
د. عبد الله الفَيْفي

.. وفي الفصل المعنون ب«زمن الجن»- من النصّ السرديّ «الحزام»(لأبي دهمان)- يضرب الكاتب ثلاثة رموز للتحوّلات التي كانت تقتضيها مرحلة المدينة: أُسَرِيًّا، واجتماعيًّا، ونفسيًّا، وذلك من خلال ثلاث حكايات أسطورية، يرمز عنوان هذا الفصل من النصّ إليها. فبغياب الأبّ- الذي جاء الخبر عن فشل العملية الجراحية التي أُجْريتْ له- يواجه الفتى تجربة الموت: موت الأبّ. (الأب) بما يعنيه في ثقافةٍ أبويّة من معانٍ، تجعل لمفردة «الأب» إسقاطاتها الرمزية المتعلّقة بمجمل الثقافة السكونيّة التقليديّة.
وإزاء حزن الفتى لجأت أُمّه في إحدى الأماسي إلى مواساته بقصةٍ رمزية، عن عَبْدٍ فَقَدَ ابنَه فتحرّرَ من حزنه عليه بالغناء، لمّا انطلق إلى عمله وأخذ يغنّي على البئر. (ص116). وهنا يحضر عنصر الغناء مرة أخرى ليحمل في النصّ ذات الدلالة السابقة من معنى التحرّر والاستقلال والإنجاز الذاتيّ، ولكن في طَورٍِ جديد. وكأنما تلك الحكاية التي تشير إلى تحرّر العَبْدِ المملوك من حزنه وعبوديته بوساطة الغناء- أو بمعنى آخر تحويل بكائه على الماضي إلى حافزٍ للمستقبل ومشروع إليه- تحيل إلى هذا الطَّور النفسي الذي مرّ به البطل، بين حياته في كنف أبيه وإحساسه الجديد بتحمّل المسؤولية، كرجل حقيقي. وإذا كان هذا هو المدلول على المستوى الشخصيّ للبطل، فلكأنه هو المُسقط الرمزي على المستوى الاجتماعي والثقافي أيضًا.
أمّا الحكاية الأسطورية الثانية فتروي قصة انفصال عالم الجنّ عن عالم الإنس. وهي تعزو سبب ذلك الانفصال إلى عدم تنفيذ شروط الزواج بين العالمين، تلك الشروط التي تنصّ على: «ألاّ يقول الإنسيّ لزوجته يوماً ما إنها جميلة جدًّا لولا أن لها قوائم ماعز»، (ص119). وكأنما هو يورد ذلك أُمْثولةً على عالم المدينة، أو على القروي إزاء عالم المدينة، حيث كان عليه ألاّ يقول إن المدينة جميلة لولا كذا وكذا؛ فالشرط الحضاريّ القائم أن يتقبّل عصر المدنية بجماله ويرضى بقُبحه، وإلاّ فإن الانفصال نتيجة حتمية لا محالة. وعندئذٍ سيتسبّب القرويّ المتزوّج من المدينة دون الوفاء بشروطها، ليس في الانفصام فحسب، بل أيضاً في أن تتحوّل قبيلته الكريمة إلى العبوديّة، وأن يصبح حالها- كما قال-: «حال الطرف بجهاتنا»، (ص119). وليس له بعدئذٍ من منقذٍ إلاّ في مثل ما أنقذ العَبْدَ المملوكَ في الحكاية السابقة، من الإقبال على العمل والتزوّد بالغناء، أي في الرُّوح الباعثة من جديد على الحرية والاستقلال.
أمّا الحكاية الثالثة، فتصوّر موقفاً أسطوريًّا نجهل مصدره - إنْ كان له أصل ميثولوجي- حول إنقاذ أُمّه خفّاشاً من الموت، زَعَمَتْ أنه كان يحمل روحاً معذّبة لأحد أجداده. وخلاصة مغزى هذه الأسطورة الثالثة تشير إلى فضيلة العمل للحياة الدنيا كالعمل للحياة الآخرة، أو كما قالت أُمّ الفتى: «الله سبحانه يودّ أن نعمل لحياتنا كما نعمل لآخرتنا». (ص122). فالبطل في هذا المنعطف من رحلته - وهو يشهد شيخوخة أُمِّه وكفّها عن الغناء، ويعلم مرض أبيه الميؤوس من شفائه، ويرى أخته (ذاكرته) النائمة أو شبه النائمة- في إيماءة غامضة إلى مرضها هي الأخرى - ويدرك من ثَمَّ ما بات يكتنف بيته من مرضٍ عام - لا يجد، والحالة هذه، من سبيل إلاّ أن يواجه الواقع بجسارة واعتماد على الذات، مع لجوئه إلى (حزام)، الذي زوّده ببعض المال، مؤكّداً في حَزْمٍ على مبادئ الرجولة والأصالة والاقتصاد، تلك المبادئ التي كان دائمًا موجّه السارد إليها، معرباً كعادته- بوصفه ضمير القرية- عن تردّده أصلاً في قبول المشروع المستقبليّ الذي كان الفتى مقبلاً عليه. فيعود الفتى إلى المدينة دون أن يكون أمامه خيارٌ آخر غير العودة. وهاهو ذا يعيد الحذاء- الذي كان اختلسه من المسجد ليهديه إلى أُمّه- لأن الأُمّ قد قَبِلَتْ الهدية ورفضتْ السرقة؛ ولأن الفتى فيما يبدو قد استوعب الدرس، فأخذ يوفّق بين قِيَم القرية الأصيلة وضرورات المدينة النفعيّة، يخوض ذلك كله في مواجهة جديدة.
ويتّضح مجدّداً من كل هذه المعطيات أن القارئ في حاجة إلى استقراء شعريّ ميثولوجيّ للنصّ كي يصل إلى مدلوله، أو شبه مدلوله، الذي يظلّ يكتنفه ضباب التهويم الشاعريّ. وهو ما يبدو متجافيًا مع طبيعة الجنس الروائي الخالص، بوصفه عملاً منفتحاً على قضايا الإنسان بلغة شفّافة، توصيليّة نسبيًّا، لا تُغرق إغراقَ الشعر في استعاريّتها ورمزيّتها، بمقدار ما تحاول الاقتراب من الواقع، حتى في مستوياته ذات المضامين الأسطورية؛ من حيث إن نموذج الخطاب القصصي نموذج كنائيّ، كما يشير (رولان بارت)(1)، فيما نموذج الخطاب الشعري نموذج استعاريّ. ذلك أن أبا دهمان يُشَعْرِن حتى ما يمكن أن يكون من نَصِّه له رصيد من الواقع، إذ يُسقط عليه من الدلالات الشعرية الواسعة ما لا يُدرَكُ خارج هذا التّصوّر الشعريّ للنصّ، من حيث هو في النهاية: «قصيدة-رواية». ويمكن أن يعود القارئ إلى شواهد هذا في تصوير طقس الختان، على سبيل المثال، أو تصوير شخصية القرويّ العائد من المدينة (العاصمة)، وما لبس أهل القرية من هداياه على ملابسهم القديمة، وكأنهم يلبسون «عاصمة فوق قرية»، أو حتّى في إشارته إلى سِنّ (العاصمة) الذهبية، أو الساعة التي جلبها ابنُ القرية وابنتُه عائدَين من مملكة السويد.
أمّا الفصل المعنون ب«الخروف والكاتب» (ص127- 148)، فهو، على طوله، يبدو حشواً، لا يتّسق وتلك البنية الكلّية للنصّ، حسب تأويلها الذي حاول الدارس طرحه في هذه القراءة. فأبو دهمان، وإنْ حاول تضمين هذا الفصل إلماحات إلى تلك المفارقات الثقافية بين القرية والمدينة، ما يلبث أن يلجّ في استطرادات حكائية وخرافية لا تنمو بأحداث النصّ، مع استغراقها منه أكثر من عشرين صفحة. هذه الصفحات ليس فيها إلا أنّ أولئك الفتية، بمن فيهم السارد- وبعد أن عادوا إلى المدينة وشعروا بالغربة والوحشة- اتخذوا نزلهم الذي كانوا فيه قرية بديلة، كاتبين اسمها على جدار البيت الخارجي، حاملين سكاكينهم وأحزمتهم بعد العودة يوميًّا من المدرسة. كما أنهم، للتعبير عن استقلالهم عن المجتمع، قرّروا أن لا يُصَلُّوا مع جيرانهم في المسجد ذاته بل يقيموا صلاتهم مستقلّين. هذا الشعور بالاغتراب وعدم الانتماء لم يكن لأنهم قرويّون فحسب، ولكن لأنهم أيضاً صغار سنّ في عيون الآخرين.
ثم يحكي بعدئذ قصة أحد أصدقائه، عاد يوماً مجرّداً من سكينه؛ لأن جارهم قد استولى عليه حين وجده يتحدّث إلى ابنته. ويمضي في سرد ذهابهم إلى ذلك الجار وإعادة زوجته السكين والحزام إليهم. ومن ثَمَّ نشوء علاقة بين الفتى صاحب السكين وتلك المرأة، حين راودته عن كتابة رسائل لها، ليصبح معروفًا من بعد بأنه كاتب الحيّ لسائر النساء. وبذلك عاش ذلك الصديق عيشة يوسف لدى عزيز مصر، وكانت حاله مع نسوة الحيّ كحال يوسف مع النسوة اللائي قطّعن أيديهنّ. وكاتب الحيّ ذاك يشير بالفعل إلى أن منزل تلك المرأة كان اسمه (مصر)، وسيحكي حكاية خرافية أخرى حكاها لتلك المرأة عن مصر، وكيف أن فرعون وهامان كانا قدما إليها بسحرهما. ومن خلال هذا يشتق الكاتب عنوان هذا الفصل «الخروف والكاتب»؛ فلقد كان أصدقاء كاتب الحيّ خرفاناً من وجهة نظره؛ لأنهم قد انصرفوا إلى دروسهم وانصرف هو إلى كسب المال والمودّة بكتابة الرسائل؛ ولذلك كان رجلاً حقيقيًّا وكانوا محض خِرفان، وهو ما كان يراه فيه أهل القرية أيضاً ويرونه فيهم؛ لأن مقاييس النجاح لديهم هو: الفحولة و«الفلوس»، لا غير.
وفي المساق الآتي قراءة في حكاية ذلك الكاتب وأولئك الخِرفان.
1) يُنظر: (1993)، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص، تر. منذر العياشي (جازان: نادي جازان الأدبي)، (37).


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved