Culture Magazine Monday  09/06/2008 G Issue 251
فضاءات
الأثنين 5 ,جمادى الثانية 1429   العدد  251
 

ظَاهِرةُ الروائيَاتِ (الجُدُدْ)
سحمي بن ماجد الهاجري

 

 

ثمة أسئلة عدة تثيرُها البِنية اللغوية لهذا العنوان:

- هل نحن بصدد ظاهرة مستقلة؟. أم جزءٍ من ظاهرة ؟.

- وهل تكفي الكتابة لتحويل الحكي إلى رؤية روائية؟.

- وما هو الفرق بين ما تسرده بعض الكاتبات بواسطة الضمير الأول - مثلا - وما تسرده (منيرة الساهي) في رواية (القارورة)، أو(لطيفة الأثلة) في رواية (جروح الذاكرة)، وأمثالهن من شخصيات الروايات الرجالية؟.

- ثم هل كلمة (جُدد) تعنى طارئات؟ أم أن الجديد هو الظرف والسياق؟. أم أن الجدة تكمن في الإبداع الفني؟. أم في جانب التلقي؟؛ أي في ردة فعل الآخرين حيال ما لم يتعودوا عليه؟.

- وأخيرا يبرزُ السؤال الأكبر وهو: هل يوجد إجابات جاهزة على هذه الأسئلة ؟.

أهمُ ما في الأمر بمجمله أنه لا يوجد إجابات حاسمة ونهائية في مثل هذه المواضيع؛ فما يفيضُ عن دائرة الأجناسية الروائية هنا، يظل مجالا خصبا لدراسات لا تنتهي، ثقافية، ونفسية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية.

ما سبق يحيل إلى أهمية السياق، وطبيعة مرحلة جديدة في الواقع المحلي، بدأت منذ عام (1990م) تحديدا؛ أي بانفجار الأوضاع بسبب حرب الخليج الثانية، ثم تعززت لاحقا بأحداث (11سبتمبر عام 2001م)، وهما حدثان محليان بامتياز بقدر ما هما عالميان. ومن أهم تأثيراتهما دمج البلاد شبه القسري بحركة العالم المتسارعة، بعد عقود من التمنع وتفضيل العزلة، إضافة إلى وضع الداخل المحلي تحت ضوء ساطع يكشفُ كلَّ حركة، ويرصدُ أيَّ نأمة يمكن أن يُفهمَ منها معنى التفرد أو الاحتجاج، مما أحاط كثيرا من الأعمال بهالة كبيرة تضاعفُ حجمَها، وتزيدُ من دائرِة انتشارِها.

جانب آخر؛ وهو أن من أهمِّ مظاهرْ العولمة بروز (سلطة السوق)؛ بمعنى أن كثيرا من الظواهر يمكن ربطُها بمسألة التسويق، فالإعلانُ عن الذات، والبحثُ عن موقع، وربما البوح، والاحتجاج، والمشاغبة، وحبُّ الظهور، حاجاتٌ إنسانية أصبحت تتزايد بفعل ظروف عديدة متشابكة، ووجدت في الرواية مجالا لتسويقها، بما يتيحُه الشكلُ الروائي المرن من إدخال (المحدقات) الإعلانية التقليدية، مثل: المرأة، والكبسولات الدلالية، والأيقونات والرموز، واللغات المختلطة مع لغات أخرى أو بين الفصحى والعامية. بل إن صناعَةَ النشر ذاتَها وإقبالَها على روايات النساء، تعززُ الطابعَ التسويقي، وتستتبعُ الاهتمامَ الإعلامي بالروائيات، ودفعَهن إلى دائرة الشهرة والنجومية، وما يعنيه ذلك من تأثير في المتلقي بما يتجاوزُ نصوصَ الأعمالِ الروائية ذاتِها. فرجاء الصانع مثلا بعد كتابة رواية واحدة صارت تصريحاتُها ذاتُ وزن معتبر، وآراؤها مواقفُ مبدئية تتناقلُها وكالاتُ الأنباء والصحفُ العالمية. مثل ما نقلت جريدة (ديلي تلغراف) البريطانية من اعتزازها بارتداء الحجاب في الخارج؛ (فهي تلبسه قسرا في السعودية، إلا أنها ترفض أن تخلعه في أمريكا، فهي تلبسه بكامل إرادتها، وهذا هو الفارق بين البلدين). وبتوسيع الدائرة، فإننا لا نقفُ بعيدا عن تسويق فكرة (تمكين المرأة) المتعلقة بالضغوط الخارجية، وتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية.. وهكذا.

وإذا عدنا إلى مشاركة المرأة في المرحلة الأولى من مسيرة الرواية السعودية نجد أنها كانت محدودة، ولكن منذ عام (1990م) وما تلاه من أحداث، ظهرت أثارُ المرحلة الجديدة أولا في روايات كتبها الرجال، مثل غازي القصيبي وعبده خال وتركي الحمد، ثم تتالت الأعمال النسائية فيما بعد. ويمكن اعتبار عام (1998م) بداية موجة الروايات النسائية الجديدة، بصدور رواية (الفردوس اليباب) لليلى الجهني؛ لتميزها واختلافها عن الروايات التي صدرت قبلها مثل: (امرأة من عصرنا) و(مات خوفي) و(اللعنة) و(عندما يحلم الراعي) و(آدم سيدي) و(طريق الحرير) و(خطوات نحو الشمس) و(امرأة على فوهة بركان) و(مسرى يا رقيب). لأن رجاء عالم تحديدا ذات اسم متفرد محليا وعربيا وعالميا، ولكن كانت لها دائرتُها الخاصة المنفصلة عن السياق المحلي، وربما ارتبط تميزُها أساسا بهذا الانفصال.

ومع ذلك لا بد من الإشارة أن روايات صدرت لاحقا، مثل (خاتم) و(ستر) إضافة إلى (غير .. وغير) لهاجر المكي، دخلت بصورة أو بأخرى في الطابع العام لأعمال الروائيات الجدد، خاصة بعد صدور رواية (وجهة البوصلة) لنورة الغامدي عام (2002م) التي جاءت تطورا نوعيا مهما في هذا السياق. ومن المعروف أن روايتي (ستر)، و(غير .. وغير) تحديدا صدرتا مع (بنات الرياض)، و(القران المقدس) لطيف الحلاج في العام ذاته؛ أي عام (2005م). وفي العام التالي مباشرة صدرت (23) رواية كتبتها النساء، منها (جاهلية) لليلى الجهني، و(البحريات) لأميمة الخميس، و(هند والعسكر) لبدرية البشر، و(الآخرون) لصبا الحرز، و(الأوبة) لوردة عبد الملك، و(سعوديات) لسارة العليوي. وهي الروايات التي أعطت للظاهرة طابَعها الخاص. إذن الظاهرة محكومة بهذا الطابع، وليست شاملة لكل الروايات النسوية الأخرى، إلا من جهة التراكم الكمي.

ما يعنينا هنا هو الاقتصار على جانب واحد، يتعلق ببعض السمات والدلالات العامة، التي يمكن أن تستخلص من مجمل خطاب هذا المنتج؛ بوصفه حلقة من ظواهر أعم وأشمل، والملاحظ أن بعض هذه السمات قد تبدو متعارضة أو متناقضة أحيانا؛ مما يدل على دخول الروايات في نوع من العصف الذهني والفكري والشعوري.

ومن البديهي أن تنصرف أولى السمات إلى الطفرة الكمية؛ فمجموع الروايات التي كتبتها السعوديات منذ عام (1990م) يزيد على مائة رواية لأكثر من ستين كاتبة؛ بما يقابل التغييب التقليدي المتوارث لصوت المرأة، بوصفه جزءا من تغييب كينونتِها، حتى أصبح مجردْ ذكرِ اسمِها جزءا من قيم العيب. في رواية (وجهة البوصلة) (حمود) ينهر (فضة) ويزجرها: (لا تنادي بأسماء النساء ياحيوانة). مما جعل الراوية تستنكر تصرفه هذا وتحتج عليه: (قلت لفضة أليس اسمي واسمك في الملف المدرسي .. أولم يُدرجا في الصحف يوم ظهرت نتائج الثانوية، ثم أليسا مشاعين بين عمال المزرعة، ومثبتين في روشتات الأطباء ومكاتب الحجز ؟).

ويكشف هذا المقطع تأثيرَ المستجدات الحديثة، مثل: المدرسة والصحف وعيادات الأطباء ومكاتب الحجز.. إلخ؛ واختراقها لبنية المنطق الذكوري، وأن المرأة باتت على وعي بهذا التأثير، وأصبحت تستخدمه حجة ضد الرجل، والدفاع عن كينونتها، ومحاولة استعادة حقوقها المسلوبة، في ظل وضع ترى أنه لا يفرق بين المرأة البسيطة والمرأة المتعلمة. في رواية (بكاء تحت المطر) تندب البطلة حظها بعد تخرجها (طبيبة) وتنعى تحكٌّم الرجال في مصيرها، تقول: (مأساة بعد التخرج، واجتماع العائلة لتقرير مصيري .. أعمل أم لا أعمل .. ملغين بذلك وجودي واختياراتي كامرأة ناضجة لها الحق في تمييز دربها الصحيح).

فداحة التغييب تزايد وضوحها مع وجود فرصة سانحة للتعبير عن الذات الواعية بموقعها، والراغبة في تحسينه. تقول الساردة في رواية (غير.. وغير): (هذا عصر الكلام، زمان كان الكلام بتبن والسكوت بذهب، الآن الكلام يورانيوم عيار 2000).

ومثل هذه النصوص الأنثوية وجدت عناية خاصة من الناشرين. يصف الناشر الخارجي رواية (أنثى العنكبوت) بأنها: (رواية تنضح بالصدق والعفوية والتمكن .. تناضل الفتاة السعودية لتحقيق استقلالها، وإثبات وجودها، وفي معركتها هذه تتعدد أصوات الجلادين، من الأب إلى المجتمع، وأخيرا الزوج غير المناسب).

السمة الثانية: الجرأة والصراحة؛ بما تنطوي عليه الأولى من الإعلان عن تحرير العقل الظاهر، ونزوع الثانية إلى تحرير العقل الباطن، وهو ما يشمل عددا من الروائيين الرجال أيضا، ولكن الجرأة والصراحة يختلف وقعها كثيرا عندما تصدر عن الأنثى، وبالذات في المجتمعات المحافظة.

ولأن الأمر يأخذ صفة الحالة العامة، فهو يتعدى الروائيات، إلى بقية النساء المثقفات. عندما تُسأل الأستاذة الأكاديمية الدكتورة أمل الطعيمي - مثلا - عن رأيها في روايات تركي الحمد تُجيب: (أحترم صدقَها وجراءَتها). فالاحترام هنا موجه لقيمتي الجرأة والصراحة، مما يشير إلى ما يشبه التواطؤ بين الكاتب والقارئ على تأجيل الجانب الفني، وأن على الغريق أن يخرج رأسه من الماء أولا، قبل أي فعل آخر. كما تقول (سارة) في رواية (الغيمة الرصاصية).

وهذا يحيل مباشرة إلى السمة الثالثة: وهي قصدية بعض الكاتبات في توجيه المسار السردي لاستدعاء بعض المشاهد الفاضحة، مما يجعل الوظيفة الثقافية تتأسس أحيانا على حساب الوظيفة الفنية؛ فلم تعد قضية الجسد هنا قضية فردية، بل تحولت أحيانا إلى توافق جماعي من الكتلة النسائية على نوع من الممارسات الخارجة على السائد الاجتماعي، كما في روايات مثل (غير.. وغير) و(سعوديات) و(الآخرون). ولهذا تظل السمة اللافتة في نهاية هذه المرحلة تزايد مقاطع (البورنوجرافي) في بعض الروايات على المقاطع (الأيروتيكية)؛ ويأتي ذلك على سبيل الاحتجاج والمشاغبة، أو لضرب المجتمع الذي يدعي الطهرانية بالشيطانية ليعودَ إلى الواقعية. حسب عبارة الدكتور عبد الله البريدي.

ويتعلق هذا بالسمة الرابعة، وهي التقويض والهدم:

تفتخر (دارين) التي تمثل شخصية فنانة تشكيلية في رواية (الآخرون) وهي تجهر بقولها: (أنا هدامة عظيمة). وكأنها تتمثل قول هيلين سيكسو: (الكتابة هي المكان الذي يمكن أن يتخلق فيه فكر تدميري). فالشخصية هنا توجه فعل الهدم إلى خارج الذات لئلا تنهدم من الداخل. وهو تطور على شخصية المرأة التي تعاني من العُقد النفسية؛ لأن رد الفعل نتيجة للوعي في بعض الروايات يعود إلى الذات ليفتك بها، فتكثر النماذج والشخصيات التي تعاني من المشاكل النفسية.

ومن هذا المدخل تأتي جرعة السخرية العالية التي ابتدأتها ليلى الجهني في (الفردوس اليباب). ولو أردنا أن نقتصر على معيار واحد نقيس به مدى قرب أي عمل من روحية أعمال الروائيات الجدد، وطبيعة نغمها العام، فإن درجة السخرية ربما تكون هي المعيار الأبرز.

السمة الخامسة: العبارات الهتافية:

برزت العبارات الهتافية على خلفية اعتبار أن المرأة تخوض ما يشبه الحرب الشاملة. وتحول هذا إلى شعور عام يفيض إلى ما وراء حدود النصوص. تهدي ليلى الجهني رواية (جاهلية) إلى واحدة من الرموز النسائية فتكتب: إلى فوزية أبو خالد .. حاربت وحدها وانتصرنا جميعا.

وتهتف بطلة (القران المقدس): (أنا الثائرة ضد البلادة، والرافضة لاجترار الغش الذهني المتداول، والمتمردة على كل أصناف الاستسلام والتراجع، والمعتنقة للبراءة المطلقة... أنا الأنفة.. أنا العزة.. أنا المعنى الجديد للأنثى يا أماه).

المثير أن حالة الهتاف تشير إلى نمط من الضعف والهشاشة والتشاؤم أكثر مما يوحي به ظاهرها من القوة. والأمثلة كثيرة، ولكن أوضحَها عودة الساردة في الرواية ذاتها لتؤكد الحقيقة الدفينة، فتقول: (قد أجد قليلا من المؤمنين بقضيتي الآن وقد لا أجد، لكنني أشك في أن أجد كثيرا من المعارضين بعد نصف قرن من الآن).

السمة السادسة: عدم الاقتصار على المواضيع الأنثوية:

مثل رصد رواية (القران المقدس) لحالة العمالة الأجنبية والأوضاع المزرية للعمالة الآسيوية على وجه التحديد. أو التطرق لظاهرة الإرهاب، مثل نماذج (الإرهابي التائب) في رواية (الانتحار المأجور)، و(الإرهابي المنتحر) في رواية (هند والعسكر)، و(الإرهابي الخفي) في رواية (الأوبة)، ونموذج (بكري) (الحونشي المتطرف) في رواية (محور الشر).

ومثل مرثيات مدينة بغداد، في رواية (النهر الثالث)، ورواية (صمت يكتبه الغياب)، ومثل مشكلة البطالة، ورمزها الأول (الملف الأخضر العلاقي) في روايتي (مزامير من ورق)، و(الانتحار المأجور).

السمة السابعة: تنويع البنى الروائية:

ومع أن هذا الجانب خليق ببحث مستقل، ولكن لا بد من الإشارة إلية؛ فقد تميزت مجمل الروايات بتنوعها في البحث عن مداخلها التكوينية؛ وتوظيفها لعناصر البنية الروائية، واسترفاد المصادر المستجدة؛ مثل: مجالات الاتصالات والفضائيات والشبكة العنكبوتية (الإنترنت)؛ التي شكلت أساس البنية النصية في عدد من الروايات. مثل: (غير .. وغير) و(بنات الرياض). وهي روايات أشاعت من ضمن ما أشاعت نوعا من العامية (الفصيحة في أدائها ودلالاتها)، بديلا عن نوع من اللغة الفصحى الجامدة (العامية في أدائها ودلالاتها).

عموما هذه إشارات عامة، ربما تكون حسنتها الحقيقية أنها قابلة للنقاش والتوسيع والإضافة.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة