Culture Magazine Thursday  04/03/2010 G Issue 300
فضاءات
الخميس 18 ,ربيع الاول 1431   العدد  300
 
الصمتُ القاتل
فيصل أكرم

الصمتُ لا يقتلك إلاّ حينما يأتيكَ من كائنٍ حيّ.. تحبه ولا يحبك. تحبّه جداً ولا يحبّك جداً ولا هزلاً..

إنه صمتٌ قاسٍ، ولكنه لا يقتلُ إلاّ أناساً لا يستطيعون الحياة إلاّ بقلوبٍ حيّة، ولا يستطيعون النوم إلاّ بضمائر لا تنام..

والصمتُ الأقسى حين يصبح قاتلاً صامتاً فإنه لا يختار ضحاياه إلاّ من خيرة الوفيّات والأوفياء.. كمحبّ أساء اختيار حبيبته، أو كمحبةٍ أساءت اختيار حبيبها، فالأول رغم قوّته كرجل لا بدّ أن تقتله حبيبته بصمتها القاسي، والأخرى رغم رقتها كأنثى لا بدّ أن يقتلها حبيبها الصامت.. يقتلها بيده لا بصمته!

(أستغربُ كيف تكاثر عطيل في زماننا، واختفت ديدمونة! شكراً لإبداعك في استحضارها)!

تلك كلمة وصلتني من الأديب المبدع الإنسان عبدالله الجفري - رحمة الله عليه - صدىً لقصيدة نشرتها في إحدى الصحف العربية عام 2000 بعنوان (إلى ديدمونة الثالثة) - القصيدة الآن ضمن ديوان (مقدمة الكتاب الأخير) - إذْ لم يكتف الجفري بالاستشهاد بمقطع منها في عموده اليومي - كما كان يفعل مع القصائد التي تعجبه، رحمه الله - بل أرسل لي عبر الفاكس ذلك التساؤل الذي وضعته بين قوسين، ولستُ أذكرُ ماذا كان جوابي، ولكني أذكرُ دائماً مأساة ديدمونة التي ذكرتُ في تقديمي لقصيدتي عنها:

(جلستْ المسكينةُ تغنّي قربَ الجمّيزة: غنّوا جميعاً أغنية الصفصافة الخضراء..)

- ديدمونة تغني -

(فيضربها حاملُ العلم أمامَ المغربيّ حتى الموت، ثم أسقطَ السقفَ عليها..)

- ديدمونة تموت -

ثمّ ذيّلتُ القصيدة بهامشٍ تنويهيّ:

* (ديدمونة): العروس الجميلة الضحية في قصة (مغربيّ البندقية) للإيطالي شينشيو، ثم جاءت كذلك في مسرحية (عطيل) للإنكليزي شكسبير..

نعم، تلك شهادة من ديدمونة، على أن الصمت يقتلُ حين يأتي ممن تحب؛ فقد تمادت ببراءتها في حبّ عطيل رغم كلّ الفوارق بينهما، ولكنّ سوءه وعدم وفائه وغباءه الأرعن جعله يستسلم لمكائد الوشاة ويصمت عن مكاشفتها بما خيّل له، وليتَ أن صمته القاسي قتله، بل زاده قسوة حتى أمر عامله بقتلها وهو يخرج من خيمتها، فسمع صوتها يقتل صمته وهي تقول لمن حولها: لا أحد قتلني، قتلتُ نفسي، سلموا لي على مولاي العطوف!

تلك مأساة لا يمكن اختصارها كنموذج للصمت القاتل، الذي يقتل مرّتين: فقد قتل عطيلُ روحَ ديدمونة بشكّه في وفائها، ثم قتل جسدها بيد عامله، والذي دفعه إلى كلّ ذلك هو (صمته).. فلو أنه تكلّمَ معها لما فعل ما فعل.

مأساة أخرى حققها (الصمتُ القاتل) ولكنها واقعية، حدثت في بيروت عام 1982 ولا يزال الوسط الثقافي العربي يضرب كفاً بكفٍّ حيرةً حين يتذكرها، وهي حادثة انتحار الشاعر اللبنانيّ الكبير خليل حاوي صبيحة اجتياح الجيش الصهيوني لبيروت..

قيل أوّلَ ما قيل إن الشاعر لم يستطع احتمال رؤية بلاده تحت الاحتلال فانتحر، ومثل هذه التبريرات تذكرني بما قرأته سابقاً - واستحضرته في قصيدة أيضاً! - عن الشاعر والأديب النمساوي شتيفان تسفايغ (1881 - 1942) الذي انتحر هو وزوجته معاً صبيحة نشوب الحرب الأهلية في بلاده..

غير أني لا أظنّ أحداثاً عظيمةً تتسبب في انتحار شعراء عظماء، أبداً، فالشعراء فرسان.. والفارس العظيمُ لا يهربُ من مواجهةٍ عظيمة، والعظيم لا تهونُ عليه نفسه إلاّ عندما يجدها هانت على حقيرةٍ أو حقير.

ففي حالة الشاعر خليل حاوي، الذي أطلق النار من مسدسه على رأسه في شرفة منزله - حيث كان يعيش وحيداً، كما ينبغي لشاعر! - وبرغم كلّ ما قيل من تحليلات لنفسية الشاعر وعذاباته والضغوط التي ضاق بها في آخر حياته.. فإنني كلما جاءت سيرته أرفضُ رفضاً قاطعاً أن يكون خليل حاوي مات منتحراً من أجل قضيةٍ كبرى، فمثله يعيش بالقضايا الكبرى ولا يموت منتحراً جزعاً منها..!

لم تتح لي فرصة التعارف الشخصيّ مع خليل حاوي، فأثناء انتحاره كنتُ في الثالثة عشرة من عمري، بيد أنّ معظم أصدقائه هم أصدقائي الآن.. وقد سمعتُ عنه منهم الكثير، وكلنا شاهدنا عودة ظهور إحدى الكاتبات العراقيات مجدداً، تتحدث في قنوات إعلامية وغير إعلامية عن الحبّ الكبير الذي مَلَكَ قلبَ خليل حاوي تجاهها، وأنها كانت موافقة على حبه لها، وتبادله الحب والأمانيّ والأحلام، ولكنّ شجاراً تافهاً حدث بينهما جعلها تبتعد عنه وتلتزم الصمت (الصمت القاتل)..

وعندما فشلت كل استجداءات الشاعر الكبير وعجز عن الفوز بكلمة - ولو واحدة - من حبيبته الصغيرة، أقدم على الانتحار وانتحر..

هكذا بكلّ أنفةٍ وبساطةٍ وصدقٍ ووضوح، وهذا ما أصدّقه تماماً.. فهكذا هم الشعراء وربّ الكعبة، لا تهون عليهم أرواحهم إلاّ حينما يستودعونها من يستكثر عليهم مجرّد كلمة من بضعة أحرف يحتاجون إليها ليتأكد لديهم شعورٌ أنهم لا يزالون أحياء، وأن أرواحهم لا تزال مصانةً عند من يحبّون.

الصمتُ القاتل، وحده، يكون قتلاً صامتاً في مثل تلك الحالات، وغيرها..

يقول الشاعر الغنائيّ الذي لا أحد يعرفُ إن كان حياً أو ميتاً، فائق عبدالجليل، بصوت العازف الأوفى لكلماته عبادي الجوهر:

(صبري عزَفْ..

صبري نزَفْ..

أنا النخيلْ

وأنا ارتجافات السَعَفْ

ناديتك بصوت العطشْ

شلاّل صوتي، ياللي ما تسمعْ نشَفْ)..

f-a-akram@maktoob.com الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة