Culture Magazine Thursday  04/03/2010 G Issue 300
فضاءات
الخميس 18 ,ربيع الاول 1431   العدد  300
 
الضابط القرآني
للذين يؤخذ عنهم العلم الشرعي
أحمد علي آل مريع

الفقه ليس مجرد:

1) الإحاطة بالنصوص،

2) أو أقوال السلف،

3) أو أن يُقال: قال فلان، وأفتى فلان، وتوقف فلان،

كما قد يظن البعض... لأن ذلك صفة حامل الفقه الذي ليس بفقيه.. أما الفقيه فشيء أسمى وأعلى من مجرد القدرة على الحفظ والاسترجاع. إن الفقه نشاط ذهني ومعرفي مركب ومعقّد، ولكن يمكن توصيفه بعبارة مقتضبة، فهو:

1- العلم،

2- والتمرس،

3- والنظر في النصوص والأسباب والنتائج،

4- وفهم الواقع والتواصل معه،

5- مع القدرة على التصوّر والتكييف للمشكلات،

6- واعتبار المقاصد ووجوه المحاسن في الإسلام،

7- واعتبار مآلات الأحكام الفقهية.

وهذا يعني أن الفقه ليس نشاط تذكّر واسترجاع، أو تنزيلاً للأحكام بعد استقطابها من المدوّنات الفقهيَّة وأقوال السلف فحسب، دون إعمال ذهن حصيف ونظر بصير، ومعرفة بالواقع، وحاجات الناس؛ بل الفقه تفكير ووعي ومعرفة، وممارسة وفهم واستنباط، وجمع بين الظواهر والنصوص، وإدراك لكُنه العلاقات، وربط بين الأسباب والمسببات؛ ولهذا فقد يكون الفقيه أهلاً للاجتهاد في مسألة ما، ولا يكون كذلك في مسائل أخر، والعكس صحيح، كما أنه قد يكون أهلاً للإفتاء في حال، أو ظرف زماني أو مكاني غير أهل للإفتاء في حال أو ظرف آخر، لكلالة في الذّهن، أو لعارض في الفهم أو التصوّر، أو للانشغال بحاجات الجسد أو الأهل، أو للانقطاع عن الناس ومعاشهم والواقع الذي يُستفتى فيه، أو لغير ذلك من الأسباب.

ويمكن لنا أن نتأمل في عجالة بعض نصوص القرآن الكريم؛ لنهتدي إلى معالم الضابط القرآني العام للعلماء الذين يؤخذ عنهم العلم الشرعي، فهم:

* (الربانيون) وهذا ركن في الهويّة التصوّرية، والمرجعية التي يصدرون عنها؛ فهم ربانيون: يأوون إلى الوحي الإلهي الصحيح الثابت وعنه يصدرون، وهو - أيضًا - ركن في الاختصاص الشرعي تعلُّمًا وتعليمًا، والمعرفة الدقيقة بالشريعة وأحكامها، وهذا يقتضي العناية بالعلم والدراية، ومراقبة الله - عزَّ وجلَّ - والإخلاص له، وسلامة النية، والموضوعية والحرص على تعليم الناس، وبيان الحق، بالحكمة والرفق والقول الحسن، والبعد عن الشهوات، والسلامة من الشبهات. وإذا كان لكل حضارة من الحضارات البشريّة في التاريخ مركزية تنطلق منها، ك(العقل - الطبيعة - الإنسان)، وتقارب العالم من خلالها بصفتها مركزية تصوّرية فاعلة؛ تشكل معالم مشروعها الحضاري ووجودها؛ فإن مركزية الحضارة الإسلامية، هي كونها حضارة ربَّانية، قال الله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) - (سورة آل عمران: 79).

* (الراسخون في العلم)، هذا يقتضي العلم الواسع بالنصوص الشرعية الثابتة، وطول الملازمة، وطول المدارسة، والسبق والتجربة، والمران على تلقي النصوص، وتربية الذهن والفهم، وثبوت القَدَم، والمعرفة الدقيقة والحكيمة، والجمع بين العلم والعمل معاً؛ فالراسخون في العلم هم: الداخلون فيه مدخلاً صحيحاً بعيدًا ثابتًا؛ فصلتهم به لم تكن صلةً مضطربة ولا عابرة محدودة، بل صلة صحيحة عميقة مستمرّة ثابتة. قال تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) - (سورة آل عمران: 7)، وهؤلاء الراسخون في العلم، هم الذين يعرفون ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، معرفة تفضي إلى اليقين به والشهادة له بأنه الحقّ والهدى؛ لذلك أخبر الله - عز وجل - عنهم في كتابه الكريم فقال: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) - (سورة سبأ: 6)، ولولا أنهم عرفوا معنى ما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تيسر لهم معرفة أنه حق أو باطل، فإنه لا يُحكم على كلام لم يُتصور معناه بأنه حق أو باطل! فالرّاسخون في العلم هم العاَلمون الذين يعقلون مرادات الشارع الحكيم حين لا يَعقلها غيرُهم، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) - (سورة العنكبوت: 43) والأمثال - كما يرى ابن تيميّة (2) - هي المتشابه عند كثير من السلف، أو هي ما كان إلى المتشابه أقرب منها إلى غيرها؛ لما بين المثل والممثل به من التشابه، ويعقلها - هنا - تعني: معرفتها وتأويلها على الوجه الصحيح، الذي يعرفه الراسخون في العلم دون غيرهم.

* (الذين يستنبطونه)، وهذا يستوجب حضور العقل النابه المدرب على الشريعة، الحاذق لفنون الاستدلال والاستنباط، والمعرفة بما وراء الأحكام من الغايات، وائتلافها مع المقاصد العامة، ووجوه التأويل المختلفة، ومناطات الأحكام؛ لا المنطوقات فحسب؛ قال الله تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) - (سورة النساء: 83)، والاستنباط: مرحلة فوق الفهم والشرح والتفسير؛ لأنّ الفهم والشرح والتفسير تتجلى في مواجهة النص المحكم والمنطوق الجلي، والاستنباط إنّما يكون في المدلول عليه، فيما وراء النص؛ مما يتوسّل إليه بالاستنباط والاجتهاد في ذلك، وهذا يجعل من العقل حاضرًا وفاعلاً في عملية التشريع، بالاستنباط الدقيق، وفق مراد الله - عزّ وجلّ -، ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومقاصد الشريعة، ولكن ليس كل عقل أهلاً لذلك، بل هو: العقل الرباني، الراسخ في العلم، الحاذق بالنصوص، البصير بالشريعة. وهنا مكان التفاوت بين فقيه وفقيه، وعالم وعالم، ومكان التفاضل بين قول وقول، ورأي ورأي، وهؤلاء فقط، هم: الذين يعلمونه حق العلم.. وهؤلاء فقط، هم: أهل الاجتهاد، الذين أذن الله لهم في الاجتهاد، وتَقَبَّله عنهم؛ فيهب بفضله للمخطئ أجرًا لاجتهاده، ويهب للمصيب أجرين لاجتهاده وإصابته الحق، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

أمّا الآخرون الذين لم تتحقق فيهم هذه الاشتراطات، ولو حملوا الشهادات، وبرعوا في الحفظ، وبهرتنا قدرتهم في سرد الأقوال، فإنا نعود إليها لمجرد المعرفة، والتثقف باستظهار الآراء، ونسبتها إلى أصحابها، أو الاهتداء إلى مظانها التي قد تكون بعيدة عن نظرنا، ولكن ليس لأخذ الفتوى الرشيدة أو الحكم الشرعي؛ لأن الفتوى الرشيدة أو الحكم الشرعي: مناطه: البصر الحديد، والنظر الثاقب، والفهم الدقيق، والملَكة والدّربة، وهذا محصور في: العلماء الربانيين، الرَّاسخين في العلم، الذين يعد حمل الفقه واستظهار الآراء والأقوال في حقهم، مجرد آلة إلى آلات أُخر يستعينون بها إلى فهم الدليل، ومن ثَمَّ يهتدون إلى استنباط الحكم!! وصدق رسول الله - عليه الصلاة والسلام -؛ (فربَّ حامل فقه لا فقه له، وربَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقه منه).

(1) هذه المقالة تميل إلى الإيجاز؛ ولذلك سنرجئ - بمشيئة الله - كثيرًا من التفصيلات المهمّة؛ فيما سمّيناه - اصطلحنا عليه بالضابط القرآني لمن يؤخذ عنهم العلم الشرعي (الاجتهاد والفتوى)، إلى دراسة أوسع معنيّة بالموضوع.

(2) راجع إذا شئت ما ذكره ابن تيمية في هذه المسألة من كلام نفيس، الفتاوى: 17-429.

باحث وأكاديمي سعودي aaljooni@hotmail.com أبها
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة