Culture Magazine Thursday  27/05/2010 G Issue 312
الملف
الخميس 13 ,جمادى الآخر 1431   العدد  312
 
صفحات مجهولة تنشر لأول مرة
المرحلة السعودية في حياة علي أحمد باكثير (1-2)

بقلم : د. محمد أبو بكر حميد

الثقافية- بقلم د. محمد أبو بكر حميد

يقف علي أحمد باكثير (1328-1389هـ/ 1910-1969م) بين أنضج أدباء العرب المسلمين في القرن العشرين ومن أعظم أدباء جزيرة العرب مكانةً وأغزرهم إنتاجاً وأكثرهم شهرةً في العصر الحديث. والحقيقة أن ظروف حياة باكثير ومحاور فكره واهتمامات إنتاجه تجعل من الصعوبة بمكان نسبته إلى وطن واحد من أوطان العرب والمسلمين.

ولد بعيداً عن وطنه وعن العالم العربي، ولد في إندونيسيا وعاش صباه وردحاً من شبابه الأول في وطنه حضرموت ثم غادر إلى عدن وتجول في الصومال والحبشة ثم أقام عاماً في الحجاز حتى استقر نهائياً في مصر، فكان لكل وطن زاره أو استقر فيه فترة في أدبه نصيب، وعاش جُلَّ حياته الأدبية في مصر وظل الإسلام جذوة في قلبه تتقد وهموم المسلمين في كل أوطانهم قضايا حياته ومحور اهتمام كتاباته، هاجم الاستعمار بشراسة ودعا إلى وحدة المسلمين وتحررهم شعراً ونثراً ولا يوجد وطن إسلامي جاهد المستعمر إلا وله في أدب باكثير مسرحية وعدة قصائد ولا يوجد وطن عربي أو إسلامي نال استقلاله إلا وكتب له نشيداً وطنياً.

تأثر باكثير منذ باكر حياته في حضرموت بالمدرسة السلفية المستنيرة وتتلمذ على مؤلفات الأئمة محمد بن عبدالوهاب وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، وأصدر في حضرموت مجلة على غرار (العروة الوثقى) و(المنار) أطلق عليها اسم (التهذيب) أنكر فيها البدع والخرافات التي كانت سائدة هناك ودعا إلى الانفتاح اجتهادات علماء العصر وحمل على الجمود والجامدين قي معظم قصائد تلك المرحلة من حياته. حورب في عقيدته وفكره واضطر الى ايقاف مجلته بعد عام واحد من صدورها احتمل فصمد، لكن عندما فقد زوجته الشابة التي اختطفها الموت عنوة من بين يديه - وكان يحبها حباً عظيماً - لم يحتمل البقاء في حضرموت فغادرها ضارباً في الأرض، فوصل عدن في 25 يونيو 1932م وأقام فيها قرابة عام ملأ به الدنيا وشغل الناس بأدبه وشعره ومحاضراته حتى غادرها ووصل جدة بالمملكة العربية السعودية في 29 مارس 1933م.

باكثير في مكة المكرمة

وصل باكثير الحجاز شوقاً للحرمين الشريفين ليغتسل روحياً هناك من جراحه وأحزانه لعله يسلو فيؤجر، فيمم وجهه شطر المسجد الحرام في أواخر شهر ذي القعدة ونشرت جريدة (صوت الحجاز) خبر وصوله في عدد الاثنين الخامس عشر من ذي الحجة 1351هـ الموافق العاشر من إبريل 1933م في الصفحة الأولى بعنوان (وصول شاعر حضرموت الأكبر).

أمضى علي أحمد باكثير عاماً كاملاً تقريباً في المملكة العربية السعودية متنقلاً بين جدة ومكة والمدينة والطائف واتصل بأدباء الحجاز الذين أصبحوا فيما بعد من رواد الأدب السعودي الحديث وتوثقت بينه وبينهم عرى الصداقة التي امتدت جسورها إلى ما بعد سفره إلى مصر في 14 فبراير 1934م..

وصل باكثير بحراً من عدن إلى جدة واستضافه الشيخ محمد نصيف في بيته بجدة الذي كان مقصداً للبارزين من رجالات العرب والمسلمين ولم يلبث بها إلا أياماً حتى غادرها شوقاً لمكة المكرمة. في مكة المكرمة نزل ضيفاً في بيت الأخوين محمد عبدالحليم وأحمد ابني جده الشيخ سعيد بن عوض بوبسيط بزقاق الحاكم بحارة القشاشية.

ربطته في مكة وجدة صلات بكل من الأدباء عبدالله بلخير، ومحمد سعيد العمودي، وأحمد إبراهيم الغزاوي، وعبدالوهاب آشي، وعبدالله فدا، ومحمد سعيد عبدالمقصود، والسيد علوي عباس المالكي، ومحمد حسن فقي، وحسين خازندار، وعبداللطيف الجزار، ومحمد حسن عواد، وحسين سرحان، وحمد الجاسر، ومحمد أمين كتبي، وعلي فدعق، ومحمد حسن كتبي، وعلي السليماني، وعلي عبدالله بادغيش، وسراج مطر، ومحمد علي شواله، ومحمد أحمد باحمدين، وعبدالسلام عمر، وعبدالقادر باسلامة.

أدى باكثير فريضة الحج واستشفي نفسياً من جراحه وأحزانه في الأجواء الروحية بالحرم المكي، وبدأ الأدباء الشباب الذين قرأوا خبر وصوله في جريدة صوت الحجاز يفدون للتعرف عليه خاصةً وأن أكثرهم كان قد قرأ له بعض قصائده في (مجلة الفتح) السلفية أو سمع به وبحبه ومناصرته للملك عبدالعزيز من حضرموت وعدن. كان الغزاوي أول من احتفى بباكثير في مكة وكان عبدالله بلخير وحسين خازندار وعبداللطيف الجزار أول من تعرف عليه من الأدباء الشباب بعد نشر خبر وصوله.

دارت بينه وبين أدباء مكة المكرمة مساجلات شعرية وإخوانيات متبادلة أخص بالذكر منهم معالي الشيخ عبدالله بلخير سكرتير الملك عبدالعزيز - بعد ذلك - والشاعر محمد إبراهيم الغزاوي شاعر الملك، لم يعلم الغزاوي بوصول باكثير مكة المكرمة إلا لما فاجأه باكثير بزيارته في منزله فحياه بقصيدة من وحي الساعة قال فيها معتذراً:

قد كدت من فرح أطير

مذ زار داري (باكثير)

أ(عليّ) لولا أنني

بالصفح مرتاح الضمير

لوهبتُك القلب الذي

أرواه كوثرُك النمير

قد كان حتماً أن أزو

رك يا أخا الأدب الغزير

لكن جهلت قدوم من

ألقى به البدر المنير

ولكم وددت لقاءه

وقنعتُ حتى باليسير

ولما رد الغزاوي الزيارة لباكثير حيَّاه باكثير بقصيدة طويلة قال فيها:

وافيت بالأدب الغزير

وطلعت بالوجه المنير

شرفتني بزيارة

غمرت فؤادي بالسرور

ناطت بعمتي السُّها

ومضت تُزاحم بي (ثبير)

وعجبت منك لكعبةٍ

طافت ببيت (أبي كثيرْ)!

قدم عبدالله بلخير, الذي كان لايزال طالباً بمدرسة الفلاح، صديقه باكثير لأستاذه بالمدرسة السيد محمد أمين كتبي (1327-1402هـ/ 1909م- 1982م) الذي كان يستقبل الخاصة من طلابه في بيته بباب الواسطية (من أبواب الحرم) كل جمعة قبل الصلاة. وحضر باكثير له دروساً موسعة في العروض، وأعجب السيد أمين كتبي بسرعة بديهة باكثير وشاعريته وتوثقت بينهما الصلة وتحولت إلى صداقة لتقارب السن والميول بينهما.

ولما كان موعد زواج السيد أمين كتبي في 25 ربيع الأول 1352هـ (1934م) نظم باكثير قصيدة طويلة تقع في 37 بيتاً هنأ فيها صديقه الشاب، وقد أثارت هذه المناسبة في نفسه ذكريات زوجته الراحلة في حضرموت وما قاساه من موتها فكان في قصيدته عبقُ فواح بالحب والحزن والشجن لا يعرف أسبابه إلا من عرف قصته، إذ يقول مشيراً إلى مأساته في مطلع قصيدته:

آهاً لصب لجَّ في مسِّهِ

شبَّ لظَى الوجد على نفسه

تقادم الدهرُ على عهده

لم يُسله الحُب ولم ينسه

يقضي دُجاه كاشفاً صدره

للظل يرتاح إلى مسِّه

حجَّ إلى (البيت) ليسلى الهوى

فزادهُ نُكساً على نُكسهِ

ثم يحاول التخفيف عن نفسه ويصف في أبيات حكيمة غزلية منافع الزواج واللقاء بين الزوجين:

خفض على قلبك من همهِ

وأطلق الخاطر من حبسه

وعلل النفس بحُلو المنى

فقد يُدال السعد من نحسه

وإن من يفرط في حُزنه

كمثل من يسعى إلى رمسه

وليس في اللذَّات من لذةٍ

كضمِّك الجنس إلى جنسه

حتى يصل إلى الممدوح فيقول عنه:

فَصُغ حُلى البُشرى وطرز بها

سعد (أمين الله) في عُرسه

الكوكب الثاقب في فهمه

والقدر الصائب في حدسه

والزهر الباسم في خُلْقه

والنهر الدائم في مرسه

في حرم الله له حلقه

تسكر فيها الناس من درسه

واتصل باكثير في حلقات الدروس بالمسجد الحرام بالشيخ العلامة خليفة بن حمد البنهاني (1270-1362هـ) وتوثقت صلته به حتى أصبح يحضر دروسه التي يعقدها بمنزله في المسفله ويصعد معه إلى جبل أبي قبيس حيث يعلم تلاميذه الفلك والميقات، ودرس معه كتابه الشهير المسمي (الوسيلة المرعية لمعرفة الأوقات الشرعية) واستكمل معه ما بدأه مع علماء حضرموت في علم الفرائض، فكان يصطحب معه أثناء زيارته للنبهاني كتاب (الرحبية) للمارديني المشهور في علم الفرائض. كما حصل على الإجازة في الفقه من الشيخ عبدالحي الكتاني المغربي وفرح بها ولكنه فجع فيه وهجاه في قصيدة بعدما انكشف أمر عمالته لفرنسا ونشرت أخباره في الصحف!!

وحرص باكثير في تلك الأيام المكية على حضور دروس معظم علماء المسجد الحرام، وكان يتردد في أوقات الضحى من كل يوم على مكتبة الحرم المكي الكائنة آنذاك بين باب السلام والمحكمة، والتي أنشأها السلطان عبدالمجيد العثماني فسميت المكتبة المجيدية.

فلاح في حارة القشاشية ولكن أهم مكتبات مكة المكرمة كانت مجتمعة عند باب السلام بالحرم المكي، وكان لأستاذ المدرسة الصولتية الخطيب الأديب عبدالله فدا مكتبة صغيرة هناك يقصدها الأدباء للجلوس مع صاحبها أو لشراء الكتب القيمة منه. وقد تردد باكثير على هذه المكتبة وأنس إلى صاحبها الذي ما لبث أن ربطته به وشائج.

كان عبدالله فدا خطيباً وضليعاً في اللغة وكان متواضعاً تواضع العلماء، ومتذوقاً حافظاً للشعر الحديث تذوقه وحفظه للشعر القديم، وقد جمعت هذه الخصلة بينه وبين باكثير خاصة عشق دواوين شعراء مصر، فكان إذا جمعه بباكثير مجلس على حد تعبير عبدالله بلخير تضوع المكان بأجود الشعر، وقد اصطحب عبدالله فدا باكثير معه إلى المدرسة الصولتية فدعاه لإلقاء خطبة في طلابها فسلب ألباب الطلاب فزاد إعجابه به وأصبح يصطحبه صباح كل خميس حيث تنعقد ندوة لطلابها في الخطابة والالقاء. وقد وجدت ترجمةً خطية كتبها باكثير عن عبدالله فدا تكشف عن عمق الصداقة التى ربطت بينهما يقول فيها:”عرفني به لأول مرة حضرة الشاعر الأديب أحمد إبراهيم الغزاوي فأحس كل منا بانجذاب نحو أخيه من حين وقعت عيناه على الآخر ثم زرته في مكتبته بباب السلام فأنس كلانا بأخيه وكاشفه سره وما تختلج به نفسه، وقد وجدت عنده صدق مودة، وصراحة قول، ودماثة أخلاق، ورقة شمائل، ورجاحة عقل، وعمق تفكير، وصواب رأي فيما يرتئيه من الأمور، فصيحُ المنطق، حسن الحاضرة، تجلس إليه الساعات الطوال فلا تمل حديثه على أنه قليل الكلام كثير الصمت).

وتشهد قصائد ديوان باكثير الذي يحمل عنوان (صبا نجد وأنفاس الحجاز) باندماجه في المجتمع المكي روحياً وأدبياً واجتماعياً، فقد حضر وشارك في العديد من المناسبات التي شهدتها مكة المكرمة آنذاك، فعلى سبيل المثال حضر حفل افتتاح (دار الحديث) وألقى فيه قصيدة نالت إعجاب الحضور عدد فيها دعاة الإصلاح السلفي المستنير منذ ابن تيمية إلى رشيد رضا يقول في مطلعها:

دار الحديث شرفُت داراً

تيهي عُلاً واسمي افتخاراً

وتجاوزي الشعرى العبُو

روطاولي الفلك المُداراً

أحيي (ابن تيمية) الذي

في هدي (أحمد) لا يُجارى

ثم يقول مشيراً إلى الشيخ محمد بن عبدالوهاب وعلم الجهاد جمال الدين الأفغاني والإمام الأستاذ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا:

و(المصلح النجدىَّ) حي يه وأوليه (العمارا)

أحيا الحقيقة بعد ما حفروا لمضجعها قرارا

وأقالَ هدي (محمدٍ) من بعد ما سئم العثارا

وتذكري من أيقظ (الشرق)العميق كرى فثارا

علم الجهاد (جمال دين الله) صاقله غرارا

وتذكري (الأستاذ) والعزمات والهمم الكبارا!

ونشرتها صحيفة صوت الحجاز في الثامن عشر من ربيع الأول 1352هـ الموافق 11-7-1933م.

وعندما وفد المجاهد الإسلامي الأمير شكيب ارسلان إلى المملكة وذهب إلى مكة المكرمة وزار مدرسة الفلاح حياه تلميذ الفلاح النجيب وشاعرها الصداح عبدالله بلخير بقصيدة نالت إعجاب الأمير، وتحدث الأمير شكيب عن النهضة التي أحدثها الملك عبدالعزيز في الحجاز فتأثر باكثير وكتب قصيدة إعجاب بصديقه وابن موطنه تمنى فيها لحضرموت ما رآه في الحجاز داعياً شاعر الفلاح للدعوة إلى الإصلاح هناك يقول في مطلعها:

يا شاعر الفلاح

حُييت من صدَّاح

إهتف (بحضرموت)

وغنِّ بالإصلاح

استقبل الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه علي أحمد باكثير في قصر السقاف بمكة المكرمة، وشكره على مناصرته له بقصائده التي كان يرسلها من حضرموت وعدن نشر بعضها في مجلة (الفتح) بمصر. وألقى باكثير بين يديه قصيدة طويلة عصماء في 130 بيتاً نشرتها جريدة أم القرى في الثالث عشر من شعبان 1352هـ مطلعها:

لا ينهض الشرقُ حتى تنهض العربُ

ونهضة العرب الكبرى لها أهبُ

إن الطريق طويلُ بعدُ ليس له

إلا السرّى ووصال السيرِ والدأبُ

وفيها هذه الحكمة:

ومن تجرد عن دينٍ وعن خلق

فليس يرفعه علم ولا أدبُ

والعلم والدين والأخلاق إن جمعت

لأمةٍ بلغوا في المجد ما طلبوا

ويتنبنأ باكثير باقتراب الحرب العالمية الثانية ويعلق الآمال على الملك عبدالعزيز في النهوض بالأمة العربية والإسلامية أثناء تلك الحرب فيقول:

(عبدالعزيز) كبير العرب أنت لها

ضاقت بنا الحال واشتدت بنا الكُربُ

أما ترانا عبيداً في مواطننا

نحني الرءوس لمن عزوا ومن غَلبُوا

وسوف توقدُ حرب الكونِ شاغلةً

فليت شعري في أثنائها نثبُ؟

إن لم تُقم أنت يا (عبدالعزيز) لها

فمن سواك بهذا الأمر يُنتدبُ؟!

ويمتدح شخص الملك عبدالعزيز فيقول:

وإن أشجع من جالت به فرس

(عبدالعزيز) وأسمى من نماه أبُ

فخر العروبةِ مصباحُ الجزيرة رب

الأريحية من دانت له الرتبُ

(ابن السعود) وحسب العرب قاطبةً

إن يذكروه فيستهويهمُ العجبُ

/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة