Culture Magazine Thursday  08/12/2011 G Issue 355
فضاءات
الخميس 13 ,محرم 1433   العدد  355
 
رؤية
رحلة التفتيش عن صديق (2-2)
فالح العجمي

استكمالاً لرحلة التفتيش عن صديق نسأل: لماذا تحرص الثقافة العربية القديمة والحديثة على أن تصور المُثُل والناس بأبهى حلة، وبطريقة حالمة في رسم العلاقات بين الناس؟ حتى أصبحت صحافتنا إلى وقت قريب – إن لم تكن لا تزال – إذا أوردت خبراً عن حادث أو ظاهرة توحي بالسلبية، أردفت معه: وهي حالة غريبة عن مجتمعنا (وكأنه مجتمع ملائكي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). فلنر ماذا تقول بعض نصوص هذه الثقافة بمثال قديم وآخر حديث؛ ننقل عن علمين عربيين ما قالاه في الصديق، وأشكر الأستاذ محمد خطابي على توفير هذين النصين، في حين كنت على سفر:

قال الجاحظ في الصديق: «هو شقيق روحك، وباب الرَوح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك. ولست منتفعاً بالعيش مع الوحدة، ولا بد من المؤانسة، وكثرة الاستبدال تهجم بصاحبه على المكروه. فإذا صفا لك أخ فكن به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما؛ فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك!» (رسائل الجاحظ).

وقال جبران خليل جبران في كتابه النبي: «قال شاب: هات حدثنا عن الصداقة، فأجاب وقال: إن صديقك هو كفاية حاجاتك، هو حقلك الذي تزرعه بالمحبة، وتحصده بالشكر؛ هو مائدتك وموقدك؛ لأنك تأتي إليه جائعاً، وتسعى وراءه مستدفئاً».

السؤال الجوهري الآن هو: هل اكتساب الأصدقاء ذو طريق واحد؛ بمعنى أن من يصبح صديقاً يبقى صديقاً إلى الأبد؟ بشأن هذا السؤال تفتي الثقافة العربية وغيرها من الثقافات بأن خيانات الأصدقاء واردة، ومتعددة الأشكال والدرجات. لكن تبقى القضية – رغم ذلك – قضية مصطلح؛ هل يعد أولئك الأفراد الذين صدرت عنهم خيانات وتخلٍ عن مبدأ التعاقد في تلك العلاقة أصدقاء، أم إنهم من درجة أدنى، لكن بعض المغفلين يعدونهم أصدقاء؟ وإن كان هذا سؤال تقني، فإن الأصعب منه سؤال الكيفية: مالدرجة التي إذا وصلها الإنسان مع آخر أصبح صديقاً له، وما المعايير لتلك العلاقة؟

في حديث لي مع زوجتي بشأن متعلق بالصداقة، ونحن صديقان في أغلب الوقت – من وجهة نظري على الأقل – تطرقنا إلى أصدقاء الإنسان من خارج جنسه؛ فأكدت لها أن الكلب يعد من أكثر الكائنات صداقة للإنسان، ووفاء لشروط الصداقة. لكنها خالفتني الرأي بأن الكلب ينظر إليها بوصفها علاقة مصلحة، لأنه محتاج إلى ذلك الإنسان الذي يرعاه، ويتولى أموره. سامحك الله يا زوجتي العزيزة! أفقدتني شيئاً من الثقة في صديق – كنت أعده مشتركاً مع كل إنسان يتقرب إليه، ويتولى تربيته.

أعترف لكم بأن جيل أولادنا أكثر منا معرفة في تصنيف العلاقات بين البشر؛ فابني زياد يصحح لأمه في كل مرة تذكر أن فلاناً – صديقه – قد عمل كذا وكذا، بقوله: لا هذا زميلي .. ومرة: هذا صاحبي ... إلخ. وأظن الأمر عائداً إلى أنهم لم تتوغل فيهم تلك الثقافة العربية الحالمة؛ وهو بحد ذاته أمر يجيب عن تساؤلات من قال: من أين خرج أولئك الشباب الذين كنا نعتقد بأنهم قد ذابوا أو أذيبوا؟

وأظنه يجدر بنا تذكر مقولة لا أعرف من هو صاحبها، مفادها: إذا حصلت على صديق واحد فأنت ذكي، وإذا حصلت على صديقين فأنت عبقري! فليعد كل منا ما في جعبته (ليس كل من دخل فيها أو توهم دخوله فيها، بل من هو موجود فعلاً بداخلها). ولا يستخدم غير أصابع يديه للعد!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة