Culture Magazine Thursday  13/10/2011 G Issue 350
قراءات
الخميس 15 ,ذو القعدة 1432   العدد  350
 
ثقافة العمل التطوعي
د.شاهر النهاري

في قواميس الصحاح، المطوع كلمة مشتقة من الطَّوْعُ: وهو نَقِيضُ الكَرْهِ. طاعَه يَطُوعُه وطاوَعَه، والاسم الطَّواعةُ والطَّواعِيةُ.

ورجل طَيِّعٌ أَي طائِعٌ.

والمُطَّوِّعةُ، الذين يَتَطَوَّعُون بالجهاد وأعمال الخير، أُدغمت التاء في الطاء كما ورد في قوله تعالى ( ومن يَطَّوَّعْ خيرا)، على قراءة الكوفيين، ومنه قوله تعالى (والذين يلمزون المطَّوّعين من المؤمنين)، وأَصله المتطوعين فأُدغم.

وفي حديث أَبي مسعود البدري في ذكر المُطَّوِّعِينَ من المؤمنين: قال ابن الأَثير: أَصل المُطَّوِّعُ المُتَطَوِّعُ فأُدغمت التاء في الطاء وهو، الذي يفعل الشيء تبرعاً من نفسه، وهو تَفَعُّلٌ من الطّاعةِ.

واصطلاحا: كل جهد بدني أو فكري أو عقلي أو قلبي يأتي به الإنسان أو يتركه تطوعاً، دون أن يكون ملزماً به، لا من جهة المشرع ولا من غيره.

قال الله تعالى، {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء، وحث الله سبحانه وتعالى العارف بالكتابة، بقوله { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ } (282) سورة البقرة وهذا ترغيب للكاتب أن يتطوع بكتابته، ولا يمتنع إذا طلب منه، فالكتابة من نعم الله على العباد، التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها.

وقال جل من قائل «اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا، وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ»، سورة سبأ آية 13 وفي زماننا الحالي كثر اطلاق مسمى المطوع، حتى أصبحت كالهبة الشرفية تطلق على كل من يظهر بمظهر العابد، وعلى كل من يعمل في المجال الديني، حتى وإن كان عمله ليس تطوعا لوجه الله، وحتى ولو كان يتعيش ويسترزق من هذا العمل، بل ويصل إلى مراتب الأثرياء من خلف عمله. وفي ذلك اجحاف على من كان مُطوعاً حقيقيا، ذلك، الذي يُقدم على عمل الخير خالصا لوجه الله، ودون أن ينتظر رد فعل دنيوي بمنصب يصل إليه، أو فخري بالإشادة أوالشهرة، أو مردود مادي، أو مكافأة كجزاء على صنيعه.

والتناقض العام أصبح جليا في عدم إقرار البعض بضرورة القيام بالعمل التطوعي، مصاحبا للعمل المهني أو الحرفي، حتى تتماثل الصورة بيننا، فلا نعود للخلط.

والعمل الدنيوي المصاحب للتدين كان صفة لجميع الأنبياء عليهم السلام جميعا، فقد كان سيدنا آدم حراثا، وكان نوحا يعمل في النِّجارة وصناعة السفن، وكان داوود يعمل في صُنع الدُّروع، ولا يأكل إلا من عمل يده، وكان سيدنا موسى يعَمِل أجيرًا عند الرجل الصالح، وعمل زكريا في النجارة والخشب، وكان عيسى راعيا. أما النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقد كان يعمل راعيا في صغره، ومتاجرا بأموال خديجة قبل الهجرة.

والصَّحابة (رضوان الله عليهم)، من المهاجرين والأنصار كانوا يعملون في أمرِ معاشهم، ولم يكونوا بطَّالين، بل كانوا أصحابَ مِهن وحِرَف، فمنهم اللَّحَّام، والجزَّار، والبزَّاز، والحدَّاد، والخيَّاط، والنَّسَّاج، والنَّجَّار، والحجَّام، وقد احترف الكثير منهم التجارةَ برًّا وبحرًا.

ولم يكن عملهم يعيقهم عن الوصولَ إلى مراتب العُلماء، ولم يكونوا يحتاجون إلى التفرُّغ الكامل، والبعد عن طلب المعاش والاحتراف، فلا تعارُضَ بين الأمرين. وعلى هذا النَهْج سار جمعٌ غفيرٌ من علماء السَلفِ، لزُهْدهم وتقواهم، فنُسب الكثير منهم لحرفته كالآجُري، نسبة إلى عمل الآجر وبيعه، والباقلاني، لبيع الباقلا، والتوحيدي، نسبة إلى بيع نوع من التمر يعرف بالتوحيد، والجصَّاص، نسبة لبيع الجص وتبييض الجدران، والبطيخي نسبة إلى من يزرع ويبيع البطيخ، والحاسب، نسبة لمن يعرف الحساب، والبصال، نسبة لبيع البصل، والقطعي، نسبة لمن يبيع قطع الثياب، والقفَّال، والخرَّاز، لمن يبيع الخرز، والخوَّاص، لمن يصنع ويبيع مفارش الخوص، والخبَّاز، والبزاز، نسبة لبيع الثياب والبز، والصبَّان، نسبة لصناعة وبيع الصابون، والقطَّان، والحذَّاء، والسمَّان، والصوَّاف، والزيَّات، والفرَّاء، والاسكافي، نسبة إلى صنع وبيع الأحذية. وكان الأغلبية لا يرتضون أن يأخذوا ثمن تقربهم لله وتطوعهم من يد بشر، حتى أن الأئمة ومؤذني المساجد لم يكونوا يرتضون بأخذ الأجر على أداء عملهم التطوعي الكريم الشريف، وكأنهم لا يرتضي أن يقبضوا جزاءهم في الحياة الدنيا. وبروح عفيفة كان الجميع يعملون في مهن شريفة، لا يضطرون معها لأخذ الأجر على تطوعهم. وبنظرة سريعة لعصرنا، نجد أن مسمى التطوع أصبح يطلق جزافا على من لا يعمل مجانا لوجه الله، بل وعلى من يحدد مبالغ معينة لما يقوم به من أعمال تدين، ووعظ، وهداية، ومحاضرات، وله في كل حال ثمن.

حتى أصبحوا من أكثر الناس ثراء، وعزبا، وأطيانا، وحسابات فلكية في المصارف، التي تنتظر منهم فتاوي التحليل والتحريم. وبذلك فقدنا المثل الأعلى في إمكانية نشر ثقافة العمل الطوعي التطوعي، والذي يُطلب من العاطلين عن العمل، ومن الشباب من محدودي الدخل القيام به!.

-


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة