Culture Magazine Thursday  29/12/2011 G Issue 358
فضاءات
الخميس 4 ,صفر 1433   العدد  358
 
صالحة: من العنوان إلى الحكاية
د.صالح زيّاد

«صالحة» هي الرواية السادسة في سلسلة روايات عبد العزيز مشري (1954-2000م) -رحمه الله- وقد صدرت طبعتها الأولى عام 1996م. ويلفتنا ابتداءً عنوانها الذي يؤلفه اسم امرأة، وهي بطلة الرواية، أو الشخصية الرئيسة فيها. ولهذا دلالته البَدْئيَّة التي تُشْهِر اسم امرأة، من خلال العنوان، ويمكن أن ننظر، وفق ذلك، إلى استراتيجية هذا العنوان من خلال أربعة مداخل، أولها يتعلق ببنية العنوان، والثاني سياقه، والثالث دلالته، والرابع وظيفته. فالعنوان مكوَّن من اسم علم مفرد لامرأة عربية ريفية غالباً، من دون أن تُعَرَّف بنسب، أو كنية، أو لقب، وذلك إمعاناً في التأكيد على فرديتها وهي مناط مسؤوليتها التي تغدو دلالة تحقيق للوجود الذي لا يتحقق من دون المسؤولية. أما سياق العنوان فهو بيئة ثقافية اعتادت أن تخفي اسم المرأة وأن ترى فيه عيباً يلحق المعرة بذويها من الرجال، حتى أصبح من وسائل الانتقاص والنبز لأحدهم في هذه البيئة أن يدعى بابن «فلانة»!.

وفي سياق عناوين الرواية العربية، تبدو العنونة، بعد الستينات الميلادية من القرن الماضي، باسم المرأة قليلة، تماماً كما هي العنونة باسم الرجل. لكن العناوين التي تحمل اسم امرأة يغلب عليها تمجيد دلالة المرأة، في استثمار لهامشيَّتها في مجتمعات ذكورية، وهو ما يطابق طبيعة البطولة التي توظفها الرواية الحديثة التي التفتت إلى سياقات أخرى للبطولة بعيداً عما كرسته البطولة التقليدية من استبداد بطولة الذكر الذي يمتلك الفروسية والشجاعة والعبقرية والكرم والأخلاق الحميدة... إلخ فأصبح هناك أبطال ذكور ولكن بغير تلك الصفات إنهم مهمشون أو حمقى أو جبناء أو شواذ... إلخ. وذلك مسعى واقعي فنياً من أجل الكشف عن مفاعيل السلطة الثقافية الاجتماعية، حيث منطقة الإعتام التي تحجبها شخصيات القادة والخلفاء والوزراء والسلاطين والملوك والأمراء وأرباب المال والقوة... إلخ في مدونات التاريخ الرسمي.

ولا يشذ العنوان عن هذه الدلالة قياساً على سياق رواية صالحة نفسها؛ فصالحة هذه تجابه الذكور، وتعاني مغبَّة جنسها الأنثوي، ومأساة كونها امرأة. أما دلالة العنوان فهي تحمل تأنيث الصلاح، والصلاح ضد الفساد، إنه معنى كلي لفعاليات سلوكية وظرفية وعملية وأخلاقية ودينية تصل بين دوال القيم العليا وهي الحق والخير والجمال، ليصبح الباطل مثل القبيح، وهما معاً مثل الشر في المسافة التي تناقض الصلاح وتصله بمدلول العلو. ولا ننسى أن الثقافة شعبياً معبأة بما ينتقص من علاقة المرأة بالصلاح، فالأمثال الشعبية هي قرين الأشعار والحكايات في التأليب على المرأة والتأكيد على الاحتراس منها واعتبارها مصدراً لمتاعب الرجل. ويتصل بدلالة العنوان على تأنيث الصلاح، دلالته على الإفراد لصالحة، هذه الفردية التي لا تكاد تُعْرَف للمرأة في الثقافة الاجتماعية إلا بالاقتران بالسقوط والاستبعاد، فالمرأة المفردة تتصف بالجنون أو بالتشبه بالرجال، أو هي الساقطة أخلاقياً. لكننا هنا أمام فردية أنثوية لا تقبل السقوط والاستبعاد.

وكما هي وظيفة العنوان عموماً في التسمية لما يعنون له، تغدو «صالحة» اسماً للرواية التي يعنونها اسمها، ومن ثم تغدو البؤرة التي تدور الرواية حولها، والثيمة الأساس في بنائها. وهذا اختيار ينم عن مقصد المؤلف الضمني، وقراءته لنصه التي تؤكد على ما يريد له أن يكون رئيسياً وجوهرياً. وبالطبع فإن من الممكن أن يقترح قرّاء هذه الرواية عناوين أخرى مختلفة، وفي ضوء هذه العناوين الأخرى تتجدد لدينا زاوية التعيين والتبئير لهذا العنوان الذي يحمل اسم إحدى شخصيات الرواية وأكثرهم بروزاً وحضوراً في مستويات السرد والوصف والحوار، وفي كل فصول الرواية. كما يتجدد لدينا مدلول الرواية من زاوية يشي بها العنوان ويفترضها، وهي زاوية تجرِّد مدلول صالحة ليصبح دلالة على المعاني التي صنعتها صالحة والتي عانتها والتي حلمت بها، وهي معاني تأخذ من أنثويتها دلالات التمثيل على الخصوبة والعدالة والإنتاج والجمال والخيرية بقدر ما تفضح العبث والحيوانية والعنف والعقم واستحالة الزمن إلى غربة ثقافية ويباب روحي فادح.

إن عنوان هذه الرواية بمثابة الصرخة التي تكسر الصمت، والإشراق الذي يعلن الرؤية والوضوح.

* * *

تحكي الرواية عن قرية ريفية، من خلال أحداث متعالقة، ليست جميعها حكراً على صالحة، وإن كانت صالحة حاضرة أكثر من غيرها من شخصيات الرواية في هذه الأحداث سواء بتعلقها بها مباشرة بوصفها فاعلاً أو منفعلاً، أم بطريقة غير مباشرة من خلال انخراطها في مجتمع القرية وعلاقتها بشخصياتها. وتعيش صالحة عناء الحياة القروية وكدحها مع ابنتها سعيدة وابنها أحمد بعد وفاة زوجها، وهي لمّا تزل حاملاً بأحمد، ولم تجاوز سعيدة، بعد، الثالثة من العمر.

والأحداث هنا طبيعية واجتماعية، فالاشتغال بالزراعة وتربية المواشي، هو م شترك الوجود الاجتماعي الاقتصادي للقرية، وهو اشتغال يصنع المجابهة الأولى لصالحة مع الشقاء، فتشمِّر عن ساعدها وتخوض معركة البقاء، بحرث الأرض والزرع والحصاد وتربية بقرتها الحلوب وحمارتها ودجاجها... إلخ. وتقفنا الرواية على مشاهد وأحداث تفصيلية عديدة، مثل هجوم الجراد على القرية، ومعاناة الرضيع من غياب أمه وأخته في المزرعة، وسقوط سعيدة عن ظهر الحمارة وكسر يدها، والحمى التي أصابت الرضيع... إلخ.

ويبدو أول منعطف للعلاقة بمجتمع القرية في مجيء العجوز «فاطمة» إلى بيت صالحة محاولة إقناعها بالزواج من «عامر» ذي المال والصلاح، لكن صالحة تجيبها على الفور بالرفض. وهو رفض يعبر عن قوة تستدعي الامتحان من خلال مواجهة صالحة، بعد ذلك، للحاجة حين هجم الشتاء وقلَّت مؤنتها من الحبوب، فباعت حليها. كما تبدو العلاقة الأخرى مع فقيه القرية الذي يأتي إليه عُمَّال الحكومة لجمع الزكاة، فتبادر صالحة إلى إخراجها من حصاد مزرعتها من الحبوب وتذهب بها إليه.

ويتكرر مجيء العجوز إلى صالحة مرغبةً في زواجها من عامر، ويتكرر رفض صالحة. ويحتال عامر عليها بما يؤدي إلى ذبح بقرتها، وينقاد له الفقيه ويجتمعان في علاقة واضحة المودَّة. لكن صالحة وبتحريض من جارتها الودودة لها لا تسكت عن حقها، وتجيء إلى بيت الفقيه وتبرز في مجلس الرجال تشتكي موت بقرتها وأنه بفعل فاعل، وهو الفاعل نفسه الذي تسبب في حرق حطبها. ويعلو الجدل مع الفقيه الذي سأل صالحة عمن هو الفاعل؟ وطلبها الإثبات بشاهدين! وهنا يقف أهل القرية مع صالحة ويجادلون الفقيه، ويعلن أحدهم أنه لا أحد يفعل ذلك سوى عامر. ويُدعَى عامر للمجلس ويدور الجدل معه من واقع رفض صالحة لطلبه الزواج منها، ثم ينتهي المجلس بطلب الفقيه المهلة لعامر إلى الجمعة التالية.

وتأتي السيارة إلى القرية المعزولة، وهي سيارة ابن رابح الذي بدأ يشتري بالمال محصول القرويين من الحبوب. ويترافق ذلك مع شيوع اقتناء القرويين لبعض الأجهزة والآثاث والمؤن الحديثة مثل الراديو والسجاد ومفارش الإسفنج ومخَّاضة الحليب المعدنية والعطور والأقمشة ودهان الشعر وأقلام الحبر... إلخ. ويُقْبِل القرويون على بيع محاصيلهم إلا صالحة وبعض القرويين فهم يقتاتون هذه المحاصيل. وهنا تبدأ مجابهة جديدة بين صالحة وطلبات ابنها وابنتها اللذين يذكِّرانها بما لدى أقرانهما مما حرمتهما منه، وتقرر –من أجل ذلك- أن تبيع كيساً من الحنطة لابن رابح حين يجيء. كما تبدو الحاجة إلى الطبيب حين مرض طفلها أحمد بالحمَّى، وتساعدها جارتها بعدد من الريالات وتصطحبه على حمارتها إلى قرية السوق حيث عيادة الطبيب.

وتنعقد العلاقة بين ابن رابح وعامر والفقيه، وهي علاقة تقوم على التعاون في سبيل بيع القرويين محصولهم. ويتكرر حدوث الخطأ على صالحة، فقد سقط اسمها من سجل ابن رابح، بعد أن سلَّمته محصولها. واحتشد أهل القرية للوقوف مع صالحة فاستجابوا لدعوة أحدهم بجمع ثمن ما أنكره ابن رابح لصالحة وتعاهدوا على مقاطعة من يخالف رأيهم ويغشهم جرياً خلف مصلحته. وفي سياق التغيرات تواجه صالحة ظمأ مزرعتها والحاجة الملحَّة إلى مضخَّة الماء التي يملكها عامر ويؤجرها على أهل القرية لسقي مزارعهم، وتقرر أن تطلب منه أن يؤجرها مثلما يفعل مع أهل القرية، فتتحرك نوازعه القديمة تجاهها في لهفة وحرارة، وتقف صالحة بالصلابة نفسها وتحسم بدفع الإيجار له بعد استخدام المضخة.

وتذهب صالحة بابنها أحمد لتدخله إلى المدرسة، وتتمنى سعيدة لو كان للبنات أيضاً مدرسة في إشارة إلى مأساة المرأة الظرفية وأمها صالحة عنوانها. ويحدث بعد ذلك أن يقتل مرزوق التومي الذي جبَّر يد سعيدة عندما انكسرت، عامراً لأنه اعتدى على ابنته راعية الغنم قرب مزرعته التي اغتصبها منذ سنين من مرزوق، وتصرِّح صالحة لابنة عامر عزة أنها صُدِمت لمقتله وتترحَّم عليه!. ويُسجن مرزوق ثم تعفو عنه عزة.

وينفرط شمل الثلاثي المؤلف من عامر والفقيه وابن رابح، فالفقيه يرى ابن رابح يأتي إلى صالحة دون أن يصطحبه، فيأتي الفقيه إلى صالحة ليحرضها ألا تبيع لابن رابح. وتنشب بعد ذلك خصومة بين الفقيه وأهل القرية فالمتعلمون الجدد يدركون عدم الحاجة الماسة إلى الفقيه، فأحدهم تقدم وصلَّى بالجماعة في غيبة الفقيه. وقد ذهب الفقيه ليشكوهم إلى مدير الهيئة المعنية بالمساجد، مدَّعياً أنهم لا يحضرون إلى الصلاة، فحضر مدير الهيئة إلى القرية ليتأكد من الشكوى، ووجد غائباً عن المسجد مرزوق التومي فأخذ يحقق معه أمام الناس وانفجر التومي واعتدى على المدير فعاد إلى السجن، وتنفجر القرية على الفقيه ويطالبون بإقالته لكن المدير يرفض ويقابل أهل القرية ذلك برفض الصلاة خلف الفقيه.

وفي ختام الرواية تكبر سعيدة وتنضج، فيخطبها ابن رابح من أمها صالحة ويستعين بالفقيه، لكنها ترفض وتقرر ألا تزوجها إلا بمن ترضاه هي، وتشتم ابن رابح لأنه متزوج من ثنتين. ويساندها في ذلك أهل القرية ويرون أنها بنت الجماعة ولا تتزوج إلا واحداً منهم.

أما نهاية الرواية فهي هدم بيت صالحة الذي تزوجت فيه وعاشت وكافحت، وذلك لأنه في امتداد الطريق المعبد الذي يمضي إلى جنوب الدنيا، وهي نهاية مليئة بصراخ صالحة وبكائها واستغاثاتها لأنه ترفض أن يهدم بيتها، وتطالب أن يهدوه على رأسها، لكن جارتها تلك الودودة معها منذ صفحات الرواية الأولى تجذبها وتأخذها إلى بيتها، فتبقى صالحة صامتة لا تتكلم تمسح دموعها والصوت «يرج الأسماع، كأنما يهدم الضلوع»!

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة