Culture Magazine Thursday  10/05/2012 G Issue 373
فضاءات
الخميس 19 ,جمادى الآخر 1433   العدد  373
 
التغريب ورغبة التغييب
وائل القاسم

 

يتشدّق الراغبون في استمرار تغييب ألباب أبناء الوطن وتعطيلها عن العمل الطبيعي المفترض، لتحقيق أهدافهم الشخصية الكثيرة الموغلة في الانحراف المقنّع بقناع الدين.. يتشدقون بمصطلح (التغريب) الذي جعلوه سلاحاً يشهرونه ويطلقون رصاصة على كلِّ ما لا يعجبهم من المقالات والخطب والمؤلفات والكلمات والأطروحات والنصوص الأدبية وغيرها، وعلى كلِّ مَن يحمل فكراً أو قناعة أو رأياً مخالفاً لما يريدون أو يألفون.

لقد أفرط أتباع التيار المتنطع في الدين، كما أسرف علماؤه وحفظة نصوصه ومشرِّعوه وخطباؤه وشعراؤه وأساتذته وباحثوه الاجتماعيون وغيرهم من رموزه ووعاظه ومنظّريه، في نعت كلِّ جديد عليهم أو غريب عنهم بالتغريب، إذا تعارض مع نزواتهم ومطامعهم الخاصة، وفي وصف كلِّ مجدد من المفكرين والأدباء الحداثيين بالتغريبي المفسد والخائن لوطنه ومجتمعه، إذا رأوا في طرحه ما يهدد كياناتهم الضخمة الكرتونية!!

ولا أدري في الحقيقة متى ولا كيف سيعالج هذا العشق المرضيّ الفظيع لهذا الانغلاق النرجسي والغرور الغبي، الذي يتعاملون من خلاله مع غيرهم تعاملاً استعلائياً مجحفاً تفوح منه روائح العنجهية النتنة.

أهلاً بما يصفه هؤلاء بالتغريب، إذا كان سيجعلنا ننافس بقية مجتمعات الأرض في ميادين النجاح والتطور والإبداع والحضارة والنظام والقانون والعدالة والإنسانية والمساواة.

أهلاً وسهلاً به إذا كان سيحقق أمانينا الطبيعية ومطالبنا المشروعة، التي عجز التشدد والتطرف الديني المسيطر علينا عن تحقيقها، رغم صبرنا الطويل عليه.

مرحباً مرحباً بما يصفه هؤلاء -حمقاً- بالتغريب السلبي، إذا كان سيجعلنا نركض في ساحات الحياة، التي أمرنا الله بعمارتها والعمل لها دائماً بكل عزم وحماس وكأننا نعيش فيها أبداً.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكل فكرة جديدة سليمة، لا تتعارض مع قاعدة شرعية واضحة وصريحة تماماً، ومتفق عليها عند جميع علماء الإسلام.. أهلاً بها مهما كان مصدرها، فالحكمة ضالة كلِّ عاقلٍ سويّ متزن طامحٍ لرفع لواء التنمية الحقيقية في سماء وطنه.

أما المسائل والقضايا التي تدخل في دائرة اختلاف العلماء، فلنا الحقُّ في الأخذ بأيِّ رأي منها، ولنا الحق في استيراد أيّ فكرة إيجابية شرقية أو غربية، وتطبيقها في بلادنا دون تردد، فخلاف علماء الأمة رحمة بها وبأهلها كما يقال، والهلاك والخسران لمن يرفض هذه الرحمة والسعة والمرونة من المتنطعين الضالين.

يقول الأصوليون: إن الأصل في كلِّ الأشياء الحلُّ والإباحة، ما لم يرد دليل على التحريم، ولكن بعض بني قومنا قلبوا هذه القاعدة رأساً على عقب فجعلوها هكذا: الأصل في كلِّ الأشياء الجديدة الخطرُ والحذرُ والريبة والشك والمنع والرفض والمعارضة والانتقاص والحرب الضروس، حتى يثبت أنه يتوافق مع توجهنا وما يعجبنا وما يتفق مع رغباتنا الشخصية فقط، وما نرجحه نحن دون غيرنا من الناس، حتى وإن أيّده أكبر علماء الإسلام ومفكروه، الذين لا يتفقون معنا في تعصّبنا الأعمى ومصالحنا المستترة.

إن الواصفين لجهود التنويريين والحداثيين بالتغريب، هم الذين رفضوا (تعليم البنات) قديماً باعتباره تغريباً، ثم أصبحوا يتسابقون على تسجيل بناتهم في المدارس والجامعات، بل يتصارعون على «الواسطة» عند ارتفاع عدد المتقدمات وقلّة المقاعد.. وهم الذين رفضوا الفضائيات عند بداية قدومها، وكانوا يصفون من يرون على منزله طبق استقبال (دش) بأقذع الأوصاف وأحقر الصفات، ثم أصبحوا اليوم يتنافسون في زيادة عدد القنوات الموجودة في منازلهم، بل وفي المشاركة في كثير منها أيضاً، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.. وهم الذين كان أسلافهم -قديماً- يقفزون على المنازل في بعض قرى «نجد» وغيرها، بحثاً عن أجهزة المذياع (الراديو)، عند بداية دخولها إلى المملكة، بحجة الحسبة والنهي عن المنكر، حيث كانوا يجمعون ما يحصلون عليه من تلك الأجهزة، ثم يكسرونها ويحرقونها بعد صلاة الجمعة أمام جامع القرية أو الهجرة، كما حدّثني بذلك غيرُ واحدٍ من كبار السن الذي أثق برجاحة عقولهم وقوة مصادرهم.

لقد جرَّب المجتمع سيطرة التشدد الديني الفوضوي على الناس، وجرّب تسلط رموزه المتخبطين سنوات طويلة جداً، ولم نستفد من ذلك إلا ضياع النظام والأمن والعدالة، وغياب الفرح والمرح والسعادة، وتصاعد أخطر الظواهر السلبية وانتشارها بيننا، ومنها -مثلاً لا حصراً- ظاهرة الإرهاب، وظاهرة الإلحاد، الذي أعني به هنا (الإلحاد الخالص الصرف) الذي يرفضه كلُّ عقلٍ سوي -في نظري-، وكذلك ظاهرة الانتحار التي تتزايد في بلادنا يوماً بعد يوم بشكل فظيع لافت للنظر؛ بالإضافة إلى ظاهرة العنوسة والبطالة والمثلية الجنسية، وغير ذلك الكثير من الظواهر التي تتفاقم بسبب سيطرة الإيديولوجية الدينية المتزمتة المتصادمة مع كلِّ جدي ومفيد ممتع للناس.

لماذا لا تُعطى الفرصة لغيرهم إذن؟ لماذا لا نجرّب أفكار الليبراليين وقناعات العلمانيين ودعاة الانفتاح والتغيير؟ أعطوهم الفرصة وجربوا واحكموا.

افتحوا لهم أبواب العمل على مصاريعها، وأبواب القلوب والعقول قبل ذلك.. ادعموهم وامنحوهم كامل الصلاحيات والوسائل وكافة أشكال الدعم الكثيرة الممنوحة للمتشددين دينياً، وانظروا كيف تكون النتيجة.

أعطوهم الفرصة الكاملة.. جرّبوا الثقة بهم ولن تندموا، وتأكدوا قبل التجربة أن النتائج ستكون إيجابية باهرة نافعة للوطن والمواطن قطعاً، فلا تلتفتوا لدعاة تغييب العقول المفلسين المساكين، الذين يصفون المختلفين معهم بالتغريبيين جهلاً وعجزاً وعلواً واستكبارا.

لماذا لا تفتح لهؤلاء النهضويين المميزين مكاتب خاصة مصرّحة، للدعوة إلى ما يرونه نافعاً للمجتمع، ولإقامة مناشطهم ونشر وجهات نظرهم بين الناس في كلِّ مدن المملكة، على غرار مكاتب الدعوة والإرشاد ومراكز هيئات المنكر والمعروف مثلاً!

أليس من حقهم الوصول لأذهان وأفئدة الناس، بصورة توازي وصول الوعاظ وأمثالهم، وبطرقٍ ميدانية وأساليب منوعة مرخّصة، تحت إشرافٍ حكومي، تجعلهم قادرين على نشر أفكارهم بينهم، والتأثير عليهم دون رهبة أو قيودٍ دينية متطرفة.. إنهم مواطنون كالمتشددين دينياً، ومن أقلّ الإنصاف أن يحصلوا على كلِّ ما يريدونه من الامتيازات الممنوحة للتيار الآخر.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة