Culture Magazine Thursday  16/02/2012 G Issue 363
مراجعات
الخميس 24 ,ربيع الاول 1433   العدد  363
 
استراحة داخل صومعة الفكر
وحيداً من جهة خاصة
سعد البواردي

 

إبراهيم الوافي - 111 صفحة من القطع المتوسط

ليت الوافي كان وفياً، وباع لنا جميعاً بجهاته الأربع التي احتفظ بها لنفسه.. أبقى لنا واحدة هي كل ما نقدر على اكتشافه من خلال أدبياته الشعرية.. إنها فن الممكن أو لنقل شعر الممكن:

(الرياض) بداياته.. وخير البدايات أن تأتي رياضاً ربيعية (نشمُّ) عرارها بل وغبارها.. وأخبارها.

الرياض التي ترتدي جورباً للشتاء الثقيل

وتنقل الصبح دفئاً تقصى ظلال الضحى

حدثتني بأن القصيدة واقعة بين نصب وجزم..

وأيضاً بين ضم وسكون.. هكذا مدينة تعج وتضج بالملايين من البشر لا يهدأ لهم سكون.. ولا ينام لهم ليل: إنها قلب الصحراء، ونقطة ارتكاز جزيرة واسعة شاسعة.. ولهذا قالت لها الساحلية:

إن المسافة ما بين حزن الصدور

وشعر (اللحى) مطلع جاهلي..

إذاً فالقيافة أن نكتب الشعر من غير خارطة

فالخرائط لا تعتني بالممرات حين تغافلها عبوة ناسفة

الخرائط لا تستعين بشمس الرياض

ولا تستطيع التكهن بالعاصفة

كل درب يؤدي إلى مجسد جدي

والد شاعرنا بعد أن جاء إليها قاصداً.. أدى صلاتَيْ الظهر والعصر جمعاً.. كان صائماً دون قيلولة.. المساجد محدقة به من كل الاتجاهات..

الدكاكين مغلقة؛ فقد حان وقت الصلاة.. المجالس محتقنة.. الرجاء يتواجدون مصابون بالرعد الموسمي.. بداية مشاهد:

النوافذ سيدة من زجاج

يراودها البرد عن نفسها.. ويحيط بها الموت

(شبكاً) تهب على حزنها

ولكن..

حين تدخلها آمناً. قلبها والشوارع باءت بوزر السويدي

قلت: إن المدينة شتوية حين يشتعل الجمر جمراً

ويأتي على غفلة من عطاء.. أي من مطر

الرياض إذا تحلِّق الشمس صلعتها كل صيف

تلسعها جمرة البرد في قلبها في شتاء بلا خيمة

سوف تشكو إلينا الشتاء

ليس هذا فحسب، كل الشواهد عن هذه المدينة البدينة الجميلة ككل المدن الصحراوية الزاخرة بالحركة والحياة والصخب.. إن قلبها الكبير يباعد بين الناس لبعد المسافة بين الواحد والآخر..

جئت بعد موت إلى ثمانين عمراً

ولا زال مسجدها قائماً بشؤون الدقائق فيها

منابرها لم تزل أوعية

غير أن نقاط العبور بها معدية

الرياض نداء الصحاري الذي طار نحو السماء

الرياض أريكة سيدة تركت ظلها في مهب المشيئة

ويختتم قصيدته الطويلة:

خاتمها شاعر جاء من غير وعد بها

ثم حله قراء قصيدته واستوى للبياض

لا تكمم فمي.. أول الشعر أنثى وآخرها بقعة

زوجوها الخزامى.. فجاءت لنا بالرياض..

تلك المدينة التي نحبها، وعلى قدر حبنا لها نتحمل حرها.. وقرها، وغبارها، وصخبها وزحامها.. لأنها الرياض..

والثانية عشرة بكاء حسب توقيت بغداد:

كعام بلا ذاكرة. كريح تملُّ من النحت والتعرية

يطل العراق برأس تصدع.

بين الدمار الذي يشمل الضرع، والزرع

والغاصبون الذين أرادوا من الحرب

أن تسعل النفط حين تهب على وجهه الريح من جهة واحدة

الخرائط مثل الستائر معدودة للشتاء

عشية أن اظعنوا مثلما قال عتبة عن رحل حي

فلا أقرؤونا السلام، ولا حدثونا عن الغيم من أي بحر أفاء؟

يستفزه الموقف.. ومن فينا لا يستفزه حال عراق كان مجيداً بتاريخه وتراثه ووحدته وتحول إلى مقبرة كبيرة لدفن أهله وتاريخه ومعه حريته، بفعل التتار الجديد وقد اخترق الحصون، وأحرق.. وأغرق:

يا هند.. ليلى تريد صبياً فتى عربياً..

شجاعاً أبياً.. وبغداد لا فرق في حزنها

فدمار الشمال شمولية في الدمار

(حلقت شبح ضربتها الصواريخ من شاطئ خائف)

سوف تنزاح أسلحة الموت بالموت..

هكذا جاءت الكذبة الخادعة.. تجربة العراق من أسلحة دماره.. ولهذا دمروا أسلحة دماره المزعومة بأسلحة دمارهم المعلومة..

بغداد ما بين فكين يا أم بنتي

فكيف سأقنع هذا الصبي بأن الرشيد انتحر؟

وأن التتار استطاع الخلاص أخيراً؟

وأن الخلود بألا تكون على الأرض بغداد

سيدرك حينئذ أنني لم أكن عزة

مثلما حملتني الروايات وهناً.. وأن العروبة محصن انفصام..

(شفق أخضر) ماذا يقول عنه؟:

الناس كل وجهة سفر..

يخبئ في خبيئة جيبه المثقوب أوطاناً. وعيد.!

وأنا وأنت تركتني لغدي وما في الأمس

إلا أن يكون غد بعيد..

مارست عند الشارع السفلي بعض طفولتي الأولى

ولكني رأيتك في بلاد الأمس محموم الوعيد!

هكذا نحن البشر مع عجزنا نسالم.. ومع قوتنا نقاوم.. ومع غرورنا وتضخم الذات فينا نساوم.. إنما العاجز من لا يستبد..

الصف الأول ابتدائي.. وكيف يتلقى الصغار مناهجهم في غياب عن مداركهم في إشارة منه إلى عالمنا الثالث النامي.. إن لم أقل النائم تأدباً..

قلم متعب.. ويد مجهدة..

ترقمان على خشب المنضدة..

ألف موصدة.. باء موقدة..

وسين.. سوف تكبر حين تكذب..

ثم ستحفظ ما شاء من سورة المائدة!!

وعن الحصة السابقة كما يراها الشاعر إبراهيم وافي:

دمي بارد. ويدي ملهمة..

على شفتي انكسرت مقلمة..

وفي نصف عيني تمرد ضوء عقيم

يضاجع فوق جفوني المكان

ويبصق في نظرتي المظلمة!

إذا كانت فيروز غنت لأمتها.. أضحكتهم وأبكتهم.. أشجتهم وأشدتهم.. فقد غنى لها شاعرنا شعراً له إيقاعه ورمقه الجميل:

مساء العناقية يا ست فيروز

لملمت كالريح أوراق ذاكرتي في الخريف الحزين

فضاء المواويل..

يا غصن زيتونة فوق نهر العروبة يمتد

من هدأة الحزن. حتى دعاء البلابل

من فزعة الموت حتى رجوع المقاتل..

من فتنة الورد حتى هجيع المنازل..

من دوخة الرقص حتى دوار الحنين..

يمضي في معزوفته لأعذب فنانة عرفها تاريخنا العربي المعاصر عن استحقاق لا ينازع أيا كانت الأذواق اختلفت وتباينت..

بيروت فيروز فوق الرواشين

فيروز بيروت حول الميادين صحو المطر

وتلويحة للغريب الحزين.

وفيروز كل الكلام، وكل السكوت.. وفجر الفجر..

شاعرنا إحساسه بالقلق وفِّق للحديث عنه:

على قلق ليست الريح تحتي. وليست عليّ

حين استقامت يدي للكتابة

جئت أنقر سطر الصباح. أراوغ ظلي

أمدُّ يدي في فراغات بعضي

وأكتب عن وطن حمَّلته النبوءات وهنا

فأرخى عباءته.. واستراح لها..

ثم باء بوزري..

الظل مكان الخلف.. وليس الأمام.. أدر وجهك نحو الصباح، أو المصباح.. ونقِّر ما يحلو لك.. اكتب عن كل الأوطان.. كل إنسان. تلك وظيفة القلم.. وقد خلا لك الجو.. قبلك قال لمن يعنيه أمرها:

خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري

لا قلق لمن يملك إرادة الحياة.. ويتملك أدوات إصلاحها وفلاحها..

والد شاعرنا تكفل به.. واستعاذ بصوته.. وكمم أغنيته في شفاه الرياح.. وجاءت المفاجأة غير المحسوبة:

مات أبي وهو يبكي

وفي وسط السطر أمي نزع حليب الحكايا

وبسملة النص جدي ينازل بالسيف ظل النخيل

ينسج أزمنة لا تباع..

أكثر من معركة أسرية واحدة.. الابن مهمته نقر سطر الصباح.. ومراوغة الظل. الأب تكفل بالابن إلى درجة حملته المعياذ من صوت ابنه.. والأم مهمتها رج حليب الحكايات؛ كي ينضج ويعطي زبدته لذيذة سهلة الهضم.. أما الجد فله مهنة المنازلة للظلال لا شيء سواها.. وبقية نسيج أزمنة لا تباع ولا تشترى.. عند هذا الحد ينتهي المسار الشيق مع شاعرنا إبراهيم الوافي عبر ديوانه الشعري.. النثري الفني (وحيداً من جهة خاصة)، كان له فيها صوت توجّع.. وهو يشهد من حوله تداعيات ما حوله.. دون أن يقدر حتى على رسوم الصورة المتحركة التي تقربه من الحلم الغارب.. اكتفى من المشهد بأنه أحد الشهود على عصر اعتصرته أحزانه.. وتاهت فيه أوزانه.. إلى درجة الإشفاق والقنوط.. الحلم خاتله.. ثم غاب قبل أن يراه..

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة