Culture Magazine Thursday  26/04/2012 G Issue 371
فضاءات
الخميس 5 ,جمادى الآخر 1433   العدد  371
 
الفساد أو الصلاح شأنٌ شخصي
وائل القاسم

 

يتحقق النصر الحقيقيُّ الكامل لأي شعب، عندما لا يشعر ذلك الشعب بحاجته إلى أيِّ نصر. أي عندما يقتنع جميعُ أفراد المجتمع بواقعهم اقتناعاً تاماً، يبعدهم عن التفكير في خوض أيِّ معركة ضدّ أي أحدٍ أو شيء، لتحقيق أي نصر. فهل هذا ممكن؟!

لا أعتقد أن ذلك سهلاً، بل أراه أشبه بالمستحيل؛ لأننا لم نجد شعباً واحداً في أيِّ مكان أو زمان اتفق جميع أفراده على كلِّ ما في وطنهم، أو اقتنعوا بكل ما يسود مجتمعهم من الأفكار والرؤى والمعتقدات والقيم الاجتماعية والمبادئ والقواعد الأخلاقية المختلفة، وغير ذلك من الأمور السياسية والاقتصادية والثقافية والمعيشية... ولذلك نرى صراع الشرائح -باختلاف أنواعها- مستمراً في كل المجتمعات دون استثناء منذ فجر تاريخ البشرية وحتى اليوم. إن ذلك هو الأصل في مختلف الميادين. هو اللازم الذي لا يمكن الانفكاك منه ولا القضاء عليه أبداً.

دعونا نتفق إذن على استحالة اتفاق أفراد أي مجتمع على صحة أو خطأ كلِّ الأمور التي تحيط بهم في هذه الحياة، وعلى أن اختلاف الناس في الآراء والرؤى هو الأمر الطبيعي، الذي أثبتته كثير من كتب التاريخ والفكر والفلسفة، وقبل ذلك الكتب المقدسة، ومنها القرآن الكريم في آية سورة هود: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ}، ثم دعونا ننتقل بعد ذلك إلى موضوع الفساد والصلاح الأخلاقي، الذي أعنيه وأقصده في هذه المقالة.

فهل يمكن أن يتفق جميع البشر عامة، أو البشر في وطن معيّن على منظومة أخلاق واضحة.. هل يمكن أن يتفق الجميع على قائمةٍ تجمع كلَّ الأخلاق والصفات الحسنة الفاضلة، وتحدّد معاييرَ وضوابط الخلق السليم أو تعريف الصفة الجيّدة بدقة، مع ضرب أمثلة جلية لها لا تقبل النقاش والجدل؟، وعلى قائمة أخرى تجمع وتحدّد العكس؟ وأعني بالعكس الصفات والأخلاق القبيحة المرفوضة.

إن هذا صعبٌ ومستبعدٌ جداً، بل هو -في ظنّي- المستحيل الأكبر الذي لا يمكن حصوله؛ فما يراه زيد إقداما وشجاعة قد يعتبره عمرو مخاطرة وجنوناً وانتحاراً، وما يظنه عمرو كرماً قد يراه عبد الباسط إسرافاً وتبذيراً ساذجاً وإضاعة للمال، وما يعتبره فلان جبناً قد يراه غيره من الناس حذراً واحتياطاً حميدين، وقسْ على ذلك كلَّ الأخلاق، بل والصفات والقدرات أيضاً، فما يتوقعه أحدنا غباءً قد يراه غيره قمة الذكاء، مردداً قول أبي تمام:

فأَتَوْا كَرِيمَ الخِيمِ مِثْلَكَ صَافِحاً

عَنْ ذِكْرِ أَحْقَادٍ مَضَتْ وضِبَابِ

لَيْسَ الغَبِيُّ بِسَيّدٍ في قَوْمِهِ

لكنَّ سيِّد قومهِ المُتغابي

قَدْ ذَلَّ شَيْطَانُ النفَاقِ وأخْفَتَتْ

بيضُ السُّيوفِ زئيرَ أُسدِ الغابِ

والشاهد في البيت الثاني، الذي أخذه أبو تمام من قول أبي العارم الطائي:

غبيُّ العي، أو فهمٌ تغابى

عن الشذان والفكر القواصي

ليس شرطاً أن تكون نظرتك أنت للصفات والقيم والمبادئ والخلال والطباع وغيرها من العادات والتقاليد والسلوكيات صحيحة.. ليس شرطاً أن تكون مرجعيتك الأخلاقية سليمة دائماً، وليس شرطاً أن يكون الفساد أو النقص هو ما تظنه أنت عزيزي القارئ فساداً أو نقصاً؛ لأن غيرك قد يراه صلاحاً وكمالاً، ببراهين وحجج أخرى، تختلف عن حججك وأدلتك أنت، والعكس صحيح.

لاحظوا أنني اخترت عدداً من أبرز الأخلاق والصفات وأكثرها تداولاً، ولا شك أن اختلاف الناس في غيرها من السمات والسلوكيات الأقلّ شهرة وبروزاً ستكون أكبر من باب أولى.

وحتى لو سلمنا جدلاً بإمكانية اتفاق الناس على الأخلاق والصفات الحميدة والذميمة، فسندخل في إشكالية أخرى أكبر وأصعب، وهي تعريف ذلك الخلق أو السلوك النبيل أو الذميم بعد الاتفاق عليه. سندخل في صراع آخر حول مفهومه وآلية إسقاطه بعد ذلك على واقع الحياة الخاصة بالأفراد.

إنها أمور شائكة معقدة.. إنه لمِن الجلي الظاهر لمَن يتأمل أقوال الفلاسفة والحكماء والأنبياء والعظماء والشعراء والمفكرين وجود تباين واسع بينهم في ذلك، ومن الطريف في هذا أنك ستذهل، بل ربما تضحك بشكل هستيري حين تقرأ في بعض كتب الفلسفة المتوارية عن أنظار العامة، ما قد ينسف بالحجج العقلية الدامغة عدداً من أسسك الأخلاقية، ككتب الفلسفة القورينائية مثلاً، أو كتب عقلنة الأخلاق، أو مذهب أبيقور اليوناني أو غيره من فلاسفة الإنجليز الذين نادوا بمذهب اللذة والمنفعة، كجيرمي بنتام أو جون لوك أو الفيلسوف الليبرالي التجريبي الجميل جون ستيوارت ميل القائل: (إن البشر جميعاً لو أجتمعوا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فردٌ واحد، لما كان لهم أن يسكتوه، بنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهم حتى لو كانت له القوة والسلطة(، والقائل أيضاً: )إننا إذا أسكتنا صوتاً فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة، وإن الرأي الخاطئ ربما يحمل في جوانحهِ بذور الحقيقة الكامنة، وإن الرأي المجمع عليه لا يمكن قبوله على أسس عقلية إل ا إذا دخل واقع التجربة والتمحيص، وإن هذا الرأي ما لم يواجه تحدياً من وقتٍ لآخر فإنه سيفقد أهميته وتأثيره).

ولا يمكن أن نُغفل في هذا السياق الكتبَ التي تناولت آراء الفلاسفة في الخير والشر، وأيهما هو الأصل في الإنسان؛ بالإضافة إلى كثير من الكتب الفكرية الأخرى المهمشة في مجتمعنا إن صحَّ الوصف، ومنها كتاب أرسطو الشهير (الأخلاق) الذي كتبه لابنه نيقوماخوس، حيث إنه كتاب يحتاج إلى قراءة عميقة مستفيضة متأنية للتمتع بجمالياته، ومن ذلك -مثلاً- أن الفضيلة عند أرسطو هي «الأمر الوسط بين طرفي نقيض»، فالكرم -مثلاً- إذا لم يكن قليلاً ولم يكن كثيراً، فهو فاضلٌ جداً عنده.

لقد توقفتُ ملياً عند عددٍ من البراهين العقلية التي أوردها بعض عباقرة الفكر الإنساني في موضوع الأخلاق. لقد انتقص بعضهم بالأدلة العقلية والحجج المفحمة عدداً من الصفات التي ساد بين غالب الناس أنها فاضلة، وأثنوا على عددٍ آخر من الأخلاق أو على منظومات أو مذاهب أخلاقية يظنها غالبنا سيئة مقيتة دون تأمل، فكم من الأخلاق التي برهن بعض الحكماء على قبحها وحقارتها، رغم أننا قد نضحك لو ذكرت أمامنا في سياق الذم والهجاء، وكم من الصفات والأخلاق التي يعتبرها أكثر الناس انحرافا وزيغاً أو نقصاً وضعفاً، رغم أن هناك من لا يستهان به من عظماء المنطق والحكمة من يعدها قمة الحسن والفضيلة والتمام والجمال والتميّز.

ما أريد أن أصل إليه هو أن التعايش بين الناس مهما تباينت قناعاتهم الأخلاقية أصبح ضرورة حتمية ملحّة في هذا العصر، الذي زاد فيه سكان العالم، وانفتحت فيه أبواب المعرفة انفتاحاً باهراً جعل المتلقي يقف مذهولاً أمام طوفان المعلومات والآراء المتضاربة في كلِّ شيء.

يجب أن لا يفسد الاختلاف في المرتكزات الأخلاقية والممارسات الشخصية والقناعات السلوكية وغيرها من القناعات للودِّ قضية بين العقلاء، وأن لا يؤدي إلى التنافر أو التصادم الشخصي بينهم كما يحدث في مجتمعنا للأسف، بل يجب أن تبقى دائرة الأخلاقيات والسلوكيات الخاصة بكل فرد محمية من تطفل الفضوليين، ومحاطة بقداسة حرية المدنية العظيمة. لأنها شؤون شخصية بحتة، لا يحق لأي كائن أو جهة اقتحام حماها، إلا إذا تعمّد صاحبها الإساءة للآخرين بأي شكل من أشكال الإساءة، مع ضرورة التأكيد هنا على أن التدخل في حال ثبوت تلك الإساءة لا يكون إلا عن طريق من يملك الصفة القانونية الرسمية التي تخوله حق محاكمة المتجاوز وعقابه.

وبناءً على ما سبق، أريد أن أحفر في رؤوس بعض بني قومي وغيرهم من المشابهين لهم في الجهل بهذا الموضوع.. أريد أن أحفر حتى أصل إلى خلايا عقولهم؛ لأزرع فيها بذرة نبتة سأنتظر نموها وثمارها مهما طال الزمن.

أريد أن أقول: اعلم يا صديقي الإنسان أنه من المستحيل أن يتفق إنسان مع إنسان آخر في كلِّ شيء، مهما بلغت درجة التقارب بينهما في القناعات والتوجهات، فكيف إذا كانا بعيدين عن بعضهما قليلاً أو كثيراً في ذلك؟ لا شك أن هوّة الاختلاف بينهما في وجهات النظر ستكون أكبر وأوسع دون أدنى ريب، ومن ذلك موضوعنا هذا الذي نحن بصدده: (تعريف الخلق الفاسد أو الصالح ومقاييسه وضوابطه)!!

كنتُ أرتاد أحد المقاهي الجميلة في بيروت بين الفينة والأخرى، أثناء زياراتي المتتالية للبنان الفكر والثقافة، وقد أدهشني في هذا المقهى الثقافي الذي يرتاده دائماً عددٌ من كبار الأدباء والمفكرين والعلماء والمثقفين؛ أدهشني الاحترام الفائق المتبادل الذي كان يسود بين المختلفين في الآراء عند الحوار، رغم أن بعض تلك النقاشات تدور حول أمور كبيرة وجوهرية وحسّاسة، منها العقدي والسياسي والاجتماعي وغيرها. قلتُ في نفسي وأنا أجلس هناك يوماً: متى ستكون النقاشات في بلادنا بهذا الرقي؟ وماذا لو رأى هؤلاء أخلاق كثير من بني قومي عند الحوار؟!

إن ما يراه الواحد منا فساداً أو شراً أو رذيلة أو انحرافاً أو سقوطاً أخلاقياً أو تجاوزاً سلوكياً قد لا يراه غيره كذلك، بل قد يراه غيره عكس ذلك تماماً، وما يعتبره أحدنا -في المقابل- صلاحاً وخيراً وفضيلة والتزاماً وتميزاً وكمالاً، قد يختلف معه الكثيرون فيه.

لقد كان البشرُ ومازالوا وسيبقون دائماً وأبداً يختلفون في تعريف كلِّ شيء، وفي الحكم على كل شيء، وفي قبول ورفض أيِّ شيء، ولذلك يجب أن يدرك الجميع أن الفسادَ والصلاح شأنٌ شخصيٌّ خاص بكل إنسان، ولا يحقُّ لأحدٍ من أفراد المجتمع المطالبة بأي مطلبٍ يمنع شخصاً من أيِّ أمرٍ يريده ويختاره بذريعة الفساد، أو يدفعه عنوة نحو أمر آخر بالإكراه بحجة أنه صلاح أو خير، ما لم تكن أقوال ذلك الشخص أو أفعاله متجاوزة لحياته الخاصة ومتعدية على شؤون الآخرين بأي شكل من أشكال الإساءة والضرر، فهنا -وهنا فقط- يجب أن يقول القانون وحده كلمته الفصل.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة