Culture Magazine Thursday  29/11/2012 G Issue 387
مراجعات
الخميس 15 ,محرم 1434   العدد  387
 
استراحة داخل صومعة الفكر
صحراء تخرج من فضاء القميص
سعد البواردي

 

دخيل الخليفة

140 صفحة من القطع المتوسط

قميص شاعرنا شاسع واسع يتسع لأكثر من صحراء قاحلة بدون شجر.. ربما لأنها أو لأنه دون ربيع.. هذا ما تبادر إلى ذهني للوهلة الأولى.. وربما أيضاً خانني التصور وأطلقت لساقي الريح دون أن أدري.

شاعرنا بقصيده.. وهو جهينة شعره عنده الخبر يقين.. لنبدأ معه سوياً على بركة متابعين دون إصدار حكم مسبق نجهله..

بداية مع الذين خلفوه وهم معلقون على الهواء دون حبال:

أينما يمموا الريح.. واستوطنوا دمهم

عبروا حلمهم خاسرين الحداء..

وعلى رمث دلتهم سهروا..

مَن هم؟ ولماذا اتخذوا من دمهم وطناً وخعلوا وتد البيت من صبره وأخلوا تاركين ربابتهم تستلهم حلمها من جرحها..

أشعر أنني أمام قراءة تحتاج إلى قراءة لعمقها.. وربما أيضاً لدلالاتها وشخوصها.. وما توحي به من انكسار نفسي عميق دون الانحسار أو الانهيار..

يقرأون المدى. يعشقون الصدى

خسروا نجمهم إذا ربحوا الانتظار الطويل

الزمن بالنسبة إليهم لحظة لا يعوضها تباطؤ، ولا تواطؤ.. إن النجم ضياع.. أليس بالنجم يهتدي المسافرون وصولاً إلى أهدافهم ومراميهم (إنهم فرحون وهم يردحون).. ومرحون أمام مشهد عرس طفولي.. ولكن ولأن السفر حافل بالمفاجآت والمواجهات أشعر بشيء من الحذر فالسفر بقدر ما هو فرحة ورقص على أنغام المزامير.. فقد انطفأ القمر بين ثيابهم بنفس القدرة والقوة التي خرجت بها الصحراء من فضاءات قميصهم. لأنهم جهلوا المسافة الفاصلة أو الواصلة ما بين عشب البراءة والبحر. انتهى بهم المشوار إلى نخلة. لا نملة. ولا نخلة مسحت فانوس البيت كي يناموا وقد أضناهم السفر.

ولكن بعض العفاريت طرقت بهم.. فاختفوا

من منا لا يخاف العفاريت؟ أنا أخشاهم.. وأشاطرهم اختيار الهروب..

مقطوعة يطغي عليها الرمز إلى درجة الغموض والإبهام إلى درجة البحث عن خبير يفك لنا عقدة الحيرة البلهاء.

ذاكرة ولد صغير استجابت لفهمنا فاستجبنا لها شاكرين ومقدرين. وقد أخرجنا من دائرة الصمت..

الصحراء أمارة بالسوء.

ليس ثمة متسع لتغازل حمامتك البريد

ولا أن يتهافت ابنة الجيران. وإهدائها أرنباً أبيض.

أحياناً تصحو من موتك لتعارك الذباب على أنفك

أو تنهر ذاكرتك عن الهروب إلى واد آخر

أحياناً تقلد لغاء نعجة هنا.. أو رغاء بعير هناك

الصحراء مزروعة بالخراف يا صديقي

وكلب واحد لا يكفي لحراستها

معك كل الحق.. فالصحراء موحشة بذئابها.. وبسرابها.. وحتى بغزلها لأن عاطفتها جافة وأرانبها نافرة.. أما الذباب فأحسب أخف أذى من ذباب المدن إن كان للصحراء الجافة ذباب.. النعجة.. والبعير. والخراف. والكلاب هم سكان الصحراء الأصليون إنهم لا خشية منهم.. احذر ذئب الصحراء.. وذئاب المدن الجائعة.

يرون الجمل في الصورة فقط لأنهم قطط المدن المدللة.. يجهلون كل ما هو خارج جاذبيتها: جدك بشواربه المفتولة مفزع ورغاء ناقته مدهش.. البداوة.. والصحراء.. وثقافة الغير مأسورة بقيد حضارة المادة المترفة لهذا النسوة الحضريات ارتجفن عن بعد أمام مشهد غريب غير متحضر!!

صورة جميلة رسمها شاعرنا للبراءة:

سارحين كلنا بقطعان السحاب الأبيض

صغيرين مثل ريشين في الهواء..

وببراءة شديدة قال:

عندما يفاجئنا الذئب نختفي وراء الخروف

هكذا يفكر الصغير.. يرى في خروفه الملاذ من هجمة الذئب.. إنه كمن يصب الزيت على النار.. ويسهل مهمة الذئب للوصول إلى فريسته.

وصورة ثانية للذكاء:

ذات غفوة أحس بنعومة في فراشي

في الصباح صحا على أفعى تتمدد بحضنه..

فقط ترك لها فروته وانسل بهدوء تام

ليقدم لها قهوة الضيف عندما تصحو

ربما كي يعقد معها معاهدة صلح أن لا تمسه بسوء وقد قدم لها فنجان قهوة الضيف عن رضى واختيار..

كثيرة ومثيرة تلك هي عناوين شاعرنا دخيل الخليفة منها ما يستعصي عليَّ حله أدعه لمن يقرأون ما خلف السطور.. ومنها الجلي الجميل الذي يستثير ويثير لعذوبته ودقة تصويره.. وهو ما أحرص أن أجعله مادة غنية للرحلة.

كيف يرى شاعرنا الذئب في حضرة من الذئب؟

ليلة البارحة.. اكتشفت أن لأخي عشرين عيناً جديدة

أخي الصغير قاوم ثمالة النقاش متسلحاً بالخوف

فقط.. لأن جدي تحدث عن ذئب جريح

التهم الراعي ساعة اعتصره الجوع!

الخوف أبداً ليس سلاحاً يعتد به.. والذئب الجريح الجائع لا يقوى على التهام راع في حضرة قطيعه رغم أنه لا يملك إلا عينين اثنتين.. كافيتين لدرء الخطر.. ما زاد عن حده من العيون انقلب إلى ضده من الخوف..

وعن الذبيحة رسم لنا صورة تكشف لنا عدم المقدرة على تمييز الاضداد..

دون أن نعرف الفرق ما بين سكيننا ونغمة ناي الرعاة

نجرجرها للنهاية تثغو لتكسر خاطرنا مرة.. ولكننا

عندما نتلذذ في اللحم ننسى ثغاء الذبيحة. حسرتها

وهي ترفس في بطوننا..

لا غرابة في الأمر يا عزيزي.. حاجتنا إلى اللحم ونحن الجياع تنسينا سكيننا وسكينتنا.. وثغاء ذبيحتنا قبل أن نلتهمها..

رفس الضحية في بطوننا وقد شبعنا أجمل وقعاً وايقاعاً من نغمة ناي الراعي.. كل شيء ينتهي بنهاية وظيفته..

علامة استفهام (؟).

من يفتح عين الآخر في الدرب

العكاز؟ أم الأعمى..

أحسبه العكاز.. لأن الأعمى لا يبصر.. إلا باللمس.. والعكاز أداة لمس توصل إلى الباب المغلق لغرض فتحه.. ربما..! أيضاً خاطرة قصيرة تقول بفم شاعرنا:

بأقفاص صغيرة جداً..

علقوا قلوبهم بعد أن حنطوها

بانتظار أن تغرد.!

الأموات لا يغردون لأن نبض الحياة توقف.

وسؤال جديد له مذاق:

ما الذي يجعل الأرض مسكونة بالشتات؟

ما الذي ذاب فينا سوى الحلم

جرحه بات أوسع من ليلنا!

مدَّ جفنيه مبتهلاً لغة..

خلعت ثوبها في مكان بعيد

بغياب الحلم تغيب كل الأشياء الجميلة.. تتعرى الحياة من حيائها وروائها وتحتضر.

شارعنا في تطوافنا معه أخذنا عبر تأملاته الحية والحياتية طارقاً بوابة لتساؤلات عقله.. وأيضاً لإجابات فهمه دون سؤال..

لأنه أغنى عن السؤال.. وتركه للتأمل.. وانتزاع المضمون الإنساني للفكرة.. وهي مجازفة لا يقوى على الإقدام عليها إلا من يثق بقدراته التأملية..

عن (الخواء) وما أدراك بالخواء المزروع في جسد الفراغ والضياع.. لشاعرنا لقطة معبرة:

يتكومون.. ودونما اتجاه محدد

تندلق مزابل الثرثرة..

يمضغون سجائر. «المارلبورو.»

يلعقون ما تبقى من سكر الشاي

في التاسعة فقط يحدث أن يتثاءب أولهم

دقائق.. ويخلو المكان إلا من طنين الذباب

ليت شاعر أبدل سكر الشاي بحثالة الشاي إنها الأنسب للموقف الذي لا يستبقي أثراً إلا طنين ذباب. وتثاؤب غياب..

«الغروب» أيضاً فكرة شاعرية:

زحلوا.. عن بقية الضباب إلى عشب أرواحهم

حين ضاق الزمان..

حين لم يجدوا في المكان مكان

كلما عبروا جرحهم وجدوا وطناً من دخان

رحلوا.. أو زحلوا كما في النص لا أدري إلا إذا كان لزحل ضباب يمكن الاقتراب منه.. وهو ما لا أتصوره.. الذي أقوله لشاعرنا ماذا تريد منهم أكثر مما أقدموا عليه.. فلا الزمان. ولا المكان.. وربما أيضاً ولا الإنسان.. دعهم يعبرون جرحهم خارج جاذبية الأرض المسكونة بالوحشة إلى وحدة مختارة عبر وطن من الدخان هو كل المتاح والمباح لهم.. إنهم حكماء وعن «الحارس» الذي وكلت إليه مهمة الحماية والحراسة يقول الخليفة:

كل مساء يرتب أفكاره بكوب شاي ثقيل

ثم بحسرة..

ينفض القلق بنصف حبة منوم..

ربما أراد أن ينام بعين واحدة

يصدق على حارسنا مقولة الشاعر:

وداوني بالتي كانت هي الداء.

بدلاً من شاي ثقيل يطرد عنه النوم كي لا يداهمه لص ويسطو على ما أؤتمن على حمايته يبتلع نصف حبة منوم في محاولة ساذجة لإغفاء عين والإبقاء على عين.. ثم من قال إن نصف حبة منوم لا تسلمه إلى السبات.. الحكاية بلاهة تفكير..

هذه الليلة أشعر أنني طائر حزين

وأشعر أنني وحيد بين صغاري

رغم أنهم يتصورونني قبيلة من الملوك

الصغار يا شاعرنا تحكمهم براءة النظر لا عليك ولا عليهم إذا ما تصوروك من فئة الملوك أو السلاطين.. إنهم لا يعون.. ولا يعرفون إن السلاطين والملوك كغيرهم يواجهون الحزن والقلق كغيرهم.. لا تثريب عليهم..

شاعرنا يتمنى.. ويتغنى بليت:

ليتني أعود برعماً أتنفس أزقة الحارات الملتوية

لا لشيء فقط لألثم رائحة جسدي الطيب

يخاطب الهوس القروي منحه خفة الجن وذاكرة الأمس كي يشتري صحن باقلاء صبيحة يوم مفعم بالبراءة أو اصطياد سمكة تمشي على قدمين.

ذكرني بأمنية شاعر قبله أن يعود إلى طفولته بعد أن تخلت عنه أحلام رجولته.. وضاعت عليه فتاة أحلامه التي كان يكد ويكدح من أجلها.

صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا

إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم

ما تمناه مقدور عليه.. عد إلى قريتك.. إلى أزقتها الملتوية.. إلى أهلها الطيبين.. أما السمكة التي تمشي على قدمين وتتمنى اصطيادها.. أخالها سمكة بشرية تمشي على الأرض.. الطريق المتاح إليها والمباح لا يحتاج إلى شباك ولو الوقوف في محاذاة بحر أو نهر.. أنت تدرك ذلك.

أتسلق الهواء في رئتين دافئتين

أطير مع إيماءة فراشة نزقة

أحلم بشمس تحاصرني في الهواء الطلق

في مدينة على جناح غيمة

فأسقط في حاجز تفتيش عاريا إلا من الخوف

نصيحة لوجه الله.. دع حلمك جانباً خوفاً عليك من أن تصطدم بواقع مدينة تحلم بها على جناح خيمة فتسقط عارياً يسكنه الخوف.. إن لم أقل الحتفة.. أمسك عليك عتبات بيتك أسلم لك..

تأخذنا الرحلة شيئاً فشيئاً مع فارسنا في شعره.. أي في نثره الغني الجميل الغامض تارة.. وهو ما أجهد ذهني فتجاوزته مرغماً لا بطلاً.. والواضح تارة وهو ما حاولت قراءته واستقراءه من باب نظرة اجتهادية تعرض ولا تفرض.

شاعرنا أجهده ضجيج سماء بلا أرغفة هكذا جاء البداية..

ليس بوسعك أن ترفو الجرح

بتلويح راية تبحث عن ابتسامة

ولا بحرف ينتظر علينا تدرك المسافة بين سطرين

وليس بوسعي أن أعبر الخارطة لأضع القلب على نافذة

تنتظر إيماء عاشق نزق..

هذا العجز جديد علينا.. وقده عودتنا عشق الصدى والمدى. والسحاب الأبيض. والضباب.. الجرح يمكن برؤه بالفرح. بالحلم الذي لا يهون ولا يهان.. بالابتسامة.. إنك بأسلحة الفأل بعيداً عن السوداوية لقادر على قطع المسافة ما بين سطرين.. وصفحتين. وكتابين.. وعلى عبور خارطة أيامك كي تطل على الحياة عبر نوافذها.. تستنشق عبير هوائها.. وتعانق نقاء سمائها. وتعشق أجمل ما في فضائها دون نزق..

المرأة التي تحلم أن تنام في وحشتي

في بيتها قمر يحب العصافير

وتحت ثيابها قلبي

يبدو أنها استعاضت عن عصافيرها المزقزقة داخل بيتها بنبضات قلبك المتواري تحت الثياب.. كلاهما يزقزق!

أخيراً مع بعض وشوشاته التي أدع الفارس رحلتنا دخيل الخليفة فك رموزها لمن لا يقدر الغوص ناهيك عن الغرق في بحر المجهول..

إنه يقول:

عبرنا من القلب منتصف البوح في حدقات الجنوب

بساطك أغرقنا في الملوحة فانفتق الجرح

لا ظل يطفىء هذي الجراح.

أوقفتنا الموالي وعلقنا الدرب في رمش إبليس

يا رئة الدفء لو تقرأين الرياح

ومقطع آخر:

نسي الورد سبورة النهر.

واحتفل الخوف بالبحر

من سوف يرفو غيوم دمي المتكلس.

وثالث أخير:

وهاأنذا سابح في شظايا الهباء

خيمة العمر تنثرني دونما وتد في العراء

ما برحت أنت يا عزيزي على الأرض بوتد لا فكاك منه إلا أن تبرحه ونبرحه معك في الأرض.. الأجنحة منكسرة.. والأماني متعسرة.. والأحلام متدثرة بشظايا هبابها.. ونعيق غرابها.. وأحياناً بزغردة بلابلها.. وزقزقة عصافيرها.. لا شيء ثابت داخل دواخلنا ولا خارجها يا (دخيل) عذراً إذا ما جهلت وشكراً على ما علمت.. انتهى......

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 ـ فاكس 2053338
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5621 ثم إلى الكود 82244

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة