Saturday 18/10/2014 Issue 447 السبت 24 ,ذو الحجة 1435 العدد
18/10/2014

(أبواب الأسى .. وشبابيك الحنين) (3-4)

البطل الإشكالي

تحفل رواية «رقص» للدكتور معجب الزهراني بتشكيل فضاءات وفاعلية حضور عدد كبير من الشخصيات التي شغلت مواقع رئيسة أو ثانوية في متن النص أو في هوامش دلالاته وإحالاته، زمانياً ومكانياً. وعلى الرغم مما يتبقى من أثر خاص ولاذع لبعض تلك الشخوص الثانوية التي عمقت فاعلية درامية النص ودلالاته، كالأم والزوجة، والأب، وشيخ القرية، إلا أن بؤرة حركية النص قد انبنت حول واقعية سيرة «سعيد» ومخيال بنيان شخصيته وحياته الغنية بالمواقف الراديكالية، وتحولاته البرجماتية المنضدة بالعديد من الرؤى، السياسية والثقافية والنستالوجية.

ولكي يُخرج الروائي سرديته من أسر سطوة الذاكرة وتقريرية الحكي، فقد عمد إلى تخييل استحضار «سعيد» ليحكي تجربته، عبر الحوار مع البطل المشارك / السارد، من أجل إغناء حرارة الحوار بوقائعيته، ولكي تبوح الذات عن رؤيتها لذاتها وللواقع الذي اشتغلت على الصراع معه، طويلاً. وحيث إن أي عمل سردي، لا بد أن ينهض على وجود «ثيمة إشكالية»، فإن شخصية «سعيد» تحقق مفهوم حركية تلك الثيمة، بحضوره «كبطل إشكالي» راديكالي، فيما يشاركه السارد في التماهي الكلي مع بعض تجلياتها في أنموذج « البطل الملحمي» و»المثقف النقدي»، وفي حالات الاندماج في البحث عن «سير أبطال آخرين»، فيما ينفصل السارد عنه ويصبح قلماً راصداً أو مرآة عاكسة، لمراحل تحولات « سعيد» الثورية، ومراجعاته لها ولواقعه المعاش، وهذا ما سنحاول الإلماح إليه في النقاط التالية:

- تكتنف حياة « سعيد» حالات متعددة، تبدو أحياناً متعارضة مع منطق صيرورة التطور الحضاري في البلدان المتقدمة، حيث يكون بطلاً ثورياً إشكالياً في مراحل حياته المبكرة، ثم يصبح «بطلاً ملحمياً» في البعد النستالوجي «للملحمية» فيما بعد السجن، حتى يستقر به التطواف بعد ذلك ليكون مثقفاً نقدياً واقعياً، في «نص» الرواية.

ولعل هذه التبدلات المتداخلة والمتعارضة لا تعود إلى البناء الثقافي والنفسي للبطل بحد ذاته، بقدر ما تعبر عن خصائص ثقافات المجتمعات « ما قبل الرأسمالية»، التي تحفل بتداخل وتعايش كل المكونات الثقافية والاجتماعية، في أبعادها الأسطورية والملحمية والثورية الرومانسية أيضاً.

لهذا سنرى أن ملامح البطل الإشكالي « سعيد» تتكوّن في إحدى تبدياتها في استعادة جماليات « الحنين الملحمي» للجنّة الأرضية القديمة، التي كان يحياها أهالي القرى في تجمعاتهم الفلاحية على سفوح جبال الجنوب، إنتاجاً وثقافة وتواصلاً مع الطبيعة والكون. وهذا الحنين يتقاطع مع البطل الإشكالي الملحمي الإغريقي، الذي افتتن به ونظّر له « لوكاش» في مرحلة شبابه الرومانسي، حيث يرى أن «طوبى» تلك المرحلة كانت تقوم في زمان ومكان « لا يحتاج إلى فلسفة، ويدع الإنسان والطبيعة موحدين في انسجام لا نقصان فيه. فالإنسان في ذاته موحّد، لا فواصل بين داخله وخارجه، ولا مسافة بين فعله وعقله... كما لو كانت العلاقات (الإنسانية) كلها جداول رائقة تصبُّ في نهر حميم» (فيصل دراج - نظرية الرواية - ص 11).

- أما من الجهة الثانية، فإن «سعيد» سيبدو لنا، في مرحلته الراديكالية، متقاطعاً في فكره ونشاطه السياسي مع أنموذج البطل الواقعي الثوري لدى لوكاش «الماركسي» أيضاً، الذي تطور ليغدو أكثر إدراكاً لمعنى «الكليّة» والغائية التاريخية للصراع الاجتماعي والطبقي! لذلك انخرط «سعيد» في ممارسة مفهوم « الكلّية» قولاً وعملاً، لأنها تُعنى - بحسب لوكاش - برصد « تناقضات المجتمع ... وتتخذ من التقدم أفقاً... يخبر عن الجهة التي يأتي منها التاريخ، وعن الجهة التي يذهب إليها» (المرجع السابق - ص 29).

وقد سعت رواية «رقص» - في جانبٍ منها - إلى تشكيل سيرة «سعيد» كأنموذجٍ لبطلٍ إشكالي محلي، يعايش في تلك المرحلة الفقيرة في مسيرة تطور حياة بلادنا، تجربة بحثٍ متعدد المآلات، عن أبوابٍ لحلها أو للتغلب على قسوتها، على كل الصعد، ولذلك لم يكن أمامه - في ضوء انغلاق الآفاق الممكنة - إلا اختيار باب الانتماء إلى حزب سري، اشتراكي راديكالي، ترعرع في محاضن تكوّن وعي طبقات عمالية وشرائح ثقافية جديدة في المدن الرئيسية، وفي مواقع إنتاج النفط!

- حين نقرأ الجانب الآخر لتلك السيرة، الحافلة بتجربة ما « بعد السجن»، سنجد بطلها الإشكالي «سعيد» (ولا بد هنا من الإشارة إلى دلالة اسمه المعبرة عن انسجامه مع رؤيته ومواقفه طوال تجربة حياته الحافلة بالتغيرات) وقد أصبح أنموذجاً لشخصية تتقاسمها مواقف متصارعة، ما بين الشخصية المحبة للحياة في سياق نشاطها العملي واليومي، أو فيما يصبّ في تشكّل مثقفها النقدي، بدلاً من السياسي الراديكالي، وذلك من خلال العمل الحميم على التقاط شظايا الزمن المكسور، عبر البحث الشقي عن سرديات عصيّة على الاستعادة أو التدوين، تشبه ضياع شيء جوهري من تجربته الطويلة!

- اشتغل الروائي على جعل الحوار مع بطله الإشكالي متكأً أساسياً، ليكشف، وبحسب رائد الحوارية «باختين»، عن مرتكزات وعي البطل وإدراكه لذاته ... وعن كلمته الأخيرة، حول العالم، وحول نفسه. وقد قال « سعيد» كلمته حول العالم وحول ذاته أيضاً!

إشكاليات البطل

ولتعميق مقاربتنا لجمالية لاشتغال الروائي على حالة تخليق البطل الإشكالي في النص، فإننا سنقف على دلالات ما يحيلنا إليه «البطل» في الواقع المحدد، كخطاب وسيرة، عبر طرح الأسئلة التالية:

- هل يمكن أن نقرأ في تحولات «سعيد» السياسية، والانتقال من الرؤية والفعل الراديكاليين إلى التصالح مع الواقع السياسي الذي كان يناهضه سابقاً، مشابهة أو تماهياً مع رؤية «هيجل»، في فلسفته حول سيرورة تحولات (الروح / المطلق)، التي وجدت كمال تحققها في قيام الدولة الرأسمالية ومؤسساتها الحديثة والقوية؟ حيث كان «هيجل» يعتبر أن البطل الروائي الإشكالي الرافض لتلك المؤسسات، قد «عمل على تجاوز مجتمعه، قبل أن ينتهي بالإخفاق، ويتصالح مع العالم الذي رفضه!» (المصدر السابق - ص 27).

- هل يمكن لنا أن نعدّ تحولات سيرة «سعيد»، كأنموذج في واقعنا العربي، للتعبير عن قبول المثقف السياسي، بما أنجزته الدولة العربية منذ ستينيات القرن المنصرم وحتى اليوم، في مضمار الوفاء بالحد الأدنى من متطلبات التقدم، وتشوّفات الإنسان العربي إلى أنظمة رشيدة تحقق حضور دولة القانون والمؤسسات الدستورية التي تحفظ حقوق الإنسان وحرياته الاجتماعية والثقافية والسياسية؟

- أما السؤال الثالث، فإنه يثار أمام الروائي، حيث أشار بعض الكتاب والنقاد إلى أن الرواية تكرّس «نمطية» المناضل «التائب»، التي رآها البعض في «شقة الحرية» لغازي القصيبي، وفي ثلاثية (العدامة، الشميسي، الكراديب) للروائي تركي الحمد؟

هذه الأسئلة تستند لما يعزز مشروعيتها، بيد أن مشروعية الحوار معها أو نقضها أيضاً، تجد مكانها شاغراً لدى قارئ الواقع وقارئ الرواية معاً!

ولكي أشارك القارئ في رؤيتي للإجابة نى هذه الأسئلة الساكنة خارج جماليات النص، والقابعة في مآلات تأملنا لدلالات واستهدافات خطابه، فإنني سأنطلق من أهم النقاط التي يمكن الحديث عنها في هذا السياق الأدبي، وهي التأكيد على أن البطل الإشكالي في الروايات المشار إليها آنفاً، هو بطل سياسي، وليس بطلاً ثقافياً أو فكرياً. ولذلك فإن رمال السياسة المتحركة ومعادلات فاعليتها، تكون أكثر مرونةً لتقبّل منطق التحولات وضروراتها الصعبة، لأن السياسة كما يقال، هي «فن الممكن» وليست خيارات المستحيل!

لذلك يضطر المثقف السياسي أو المهتم بذلك الفضاء المتقلب، تحت وطأة خيار الضرورة وليس ضمن خيار الحرية، للقيام بمراجعة حركته واستهدافاتها، وأساليب التعبير عنها لبلوغ الممكن، بحسب موازين القوى في الفضاء المتاح! وهذا ما نقرأه في تلك الروايات، حيث يبقى البطل الإشكالي، وعلى الرغم مما يتعرض له من محنٍ أو تغيرات، مخلصاً لنزعة المثقف النقدي الكامنة في أعماق قناعاته، ويمضي باحثاً بعينه الرائية عن أي مجال، للتعبير فيه عن نقده لمظاهر الخلل والقصور في البنى السياسية والاجتماعية من جانب، وعن توقه، من الجانب الآخر المهم، إلى تقدم وتطور مجتمعه في كل المجالات.

وفي هذا السياق، يمكن للقارئ المتمعِّن أن يرى أن سيرة ونتاجات الروائيين الثلاثة (القصيبي، الحمد والزهراني)، عبر تخييل سيرة أبطالهم الإشكالية أولاً، وعبر كتاباتهم الأخرى ثانياً، قد عملت على تدوين تحولات البطل واخفاقاته، مثلما اهتمت بالوقوف على الكثير من أخطاء وتجاوزات المؤسسات الرسمية، بروح المثقف النقدي، وبفاعلية المثقف العضوي أحياناً، بحسب ما تتيحه الظروف والحسابات من ممكنات!

لذا يمكننا القول ان «هشام العابر» بطل ثلاثية « تركي الحمد» إضافة إلى بطل رواية «رقص»، لم يراجعا أشكال اشتغالاتهما في الحقل السياسي، كمعارضين سابقين، اقتناعاً منهما بأنه قد تحقق لنا في واقعنا العياني، الحد الأدنى من قيام المؤسسات الرسمية والشعبية المتشاركة في صناعة القرار، مماثلة بما تم إنجازه في زمن المرحلة البرجوازية الأوروبية خلال حياة «هيجل» وما بعدها، ولكنهما ذهبا إلى ذلك الخيار نتيجة لتجربة حفلت بالكثير من الأحلام، والكثير من الأخطاء والآلام، ولذا لم يعد أمامهما بعد مراجعة التجربة إلا اختيار الطريق السلمي للمطالبة بالإصلاح السياسي، والذهاب إلى اختطاط طريقٍ آخر، أقل تكلفة على طرفي الصراع، وأدعى إلى إمكانية الحوار والاستجابة، وإن كان الطريق إلى تحقيق ذلك الإصلاح المنشود، لا يزال طويلاً!

لكل هذا، سنلاحظ أن «رقص» قد احتفظت بموقع بطلها «سعيد»، كمثقف نقدي، يعلن عن رأيه بشكل صريح في مواقف عديدة، حيث يقول في حواره مع السارد: «كنت مع الثورة المسلحة وأنا اليوم مع الإصلاح. وما لم نتبن النظم التي طورها آخرون، سنظل مهددين شعباً ووطناً. لا بد أن ننقذ مستقبلنا من مآسي ماضينا. الاستبداد، الفساد ليسا مجرد تُهم استشراقية مغرضة، كما قيل لكم في الجامعة. تداول المواقع بشكل سلمي وتبادل المنافع بعدالة هو الذي يؤثث بيت الوطن ببشَرٍ يحبونه ويحرصون عليه» (رقص - ص 196). ولسوف تجيب هذه الفقرة، وغيرها الكثير من المواقف والآراء التي احتفى بها النص، على التساؤل الحاد الذي يتكرر كثيراً حول تكريس سلبية «ثيمة» المناضل «التائب» في الرواية المحلية.

لماذا؟

لأننا سنتأمل في هذه الفقرة جانباً من أبعاد رؤية البطل النقدية العميقة للواقع، حتى في مرحلة تحولات ما بعد السجن. وسوف نقرأ أيضاً في الأبعاد الرمزية لإصرار البطل الإشكالي «سعيد» على البحث عن سيرة المعارض السابق «راشد» وتدوينها أفقاً دالاً ينفتح للبوح عن اعتداده بتجربته، وعن تحفيزه الضمني في هذا المجال لمئات الناشطين السياسيين - الذين لم يتمكنوا من كتابة حكاياتهم ورؤاهم لأسباب ذاتية وموضوعية - لكتابة تجاربهم لأنهم ظلوا يقبضون على جمر رؤية المثقف النقدي للواقع، مفصحين عنها في محيطهم، وضمن ما تسمح به المساحات المتاحة من تفاعلات ممكنة.

- الدمام