Saturday 25/10/2014 Issue 448 السبت 1 ,محرم 1436 العدد
25/10/2014

حديث الذكريات 1 – 2

كنت أنتظر على رصيف أحد مقاهي معرض دمشق الدولي للكتاب، كان ذلك في النصف الأول من الثمانينيات الميلادية، وأحسبُ الدقائق على موعد مع الروائي الكبير الأستاذ / عبد الرحمن منيف، وفجأة رأيته، كان يخطو خطوات بطيئة، ليدلف إلى داخل المعرض متكئاً على تعب السنين، ويده بيد الرجل الذي دعاه يوماً بابنه الذي لم ينجبه، فقمت لتحيته والصديق الأستاذ محمد القشعمي، وهالني أن الذي إلى جانبه رجل يحمل على كاهله قرناً من الزمان، وكنت قد عرفت الأستاذ الرائد عبد الكريم الجهيمان، وتأملته من صوره التي تنشر في الصحف، وكانت قليلة قياساً بآخرين تملأ صورهم الآفاق، يكرس حضورهم ولم يكونوا شيئاً في ميزان هذا الشاهق، وكنت بكل غباء لا أعرفه بشكلٍ تام ولم ألتقه ولم أقرأه بدقةٍ، وقد حصلت على كتاب نقدي وحيد له، وهو عبارة عن مقالات يتساءل فيها أين الطريق؟، وأخجل إذا تذكرت أني لم أعطه حقه من الاهتمام، وما يساوي قيمته غير ما تقتضيه تحية رجل مسن من وطني، ولسوء حظي أم لحسنه، لا أعرف، فقد قضيت كل السنوات اللاحقة أكتشف كل يوم قمة جديدة من مجموعة قمم في شخصية هذا الرجل النادر، فقد عرفت صفات كثيرة في إنسان واحد: الوطنية، المعرفة، الحلم، النبل، الصدق، خفة الدم، سرعة البديهة، التواضع، الكرم، حب الناس، التسامح، التواضع، الوفاء، وصفات أخرى عديدة، سأحاول في حديث هذه الذكريات، تذكرَ بعضها في مواقف شاهدة، فكنت أستغرب في اكتشاف كل حالة، وأسأل نفسي بغرابة: كيف لإنسانٍ -مرت به كل صنوف الحياة- القدرة أن يعطي للحياة وللأصدقاء كل هذا التوهج؟.

كنا في طريقنا بعد نهاية المعرض لنتعشى ونسهر في بيت الصديق القشعمي، وكان يبعد عن دمشق حوالي مائة كيلو، وقد لبى دعوته عدد من الأصدقاء العرب والسعوديين، وكنت من بينهم بطبيعة الحال، ومضينا في رفقة شيخنا في سيارة واحدة، وهنا حدث ما كان بالنسبة إلي مدهشاً، فقد طلب الرجل المسن أن نبدأ مساجلة شعرية، لنقطع بها الطريق، ولم تكن إلا أسلوباً راقياً لكشف قدرة ذاكرة كل منا وذوقه، وإذابة الحواجز الوهمية والمفروضة، وقد اقترح نظاماً وزمناً للمساجلة، يخرجُ كل من يعجز عن إكمال دوره، ولما عجزنا كلنا رفقاء الرحلة عن مجاراته، وبقي وحيداً وبعضنا شعراء، اقترح أن يسلف كل واحد منا بيتاً شعرياً، وأيضاً عجزنا جميعاً في الجولة الثانية عن مجاراة رجلٍ يتجاوز عمره المائة عام رحمه الله، فقد كانت له ذاكرة قوية وحاضرة، تحفظ القرآن والأحاديث والأساطير والأمثال والتاريخ والشعر.

وعدتُ إلى دمشق بعد هذه الليلة وشرفني الله برفقه هذا الرائد، نسكن معاً في دمشق أربعة أيام، ونتمكن من زيارة المعرض والتجول بين ردهاته، والاطلاع على كل جديد ولقاء المثقفين، ولم يكن ليحدث ذلك لولا رضا الصديق القشعمي، واطمئنانه أن أباه سيجد معي الرعاية والحب، وكان يتصل بنا بين حين وآخر، فعرفت في شخصية هذا العظيم في هذه الأيام القصيرة، مواطن الجمال والصمود في روحه بما لم تنبئ به الكتب، وتحققت فعلاً المقولة السائدة التي تقول: إذا أردت أن تعرف إنساناً فرافقه في السفر. ويبدو أني سأبقى في هذه الحلقة في حديث الذكريات، وسأخصص الحلقة الثانية للغوص في ثنايا الأساطير، وقد تشرفت بعد هذه الليلة أن أكون قريباً من هذا الرائد رحمه الله، وداومت كل يوم اثنين على الحضور إلى بيته، والمشاركة مع أصدقائه في صالونه الأدبي والذي ما زال مستمراً إلى الآن.

حديث الذكريات والأسئلة الحادة لم ولن تنتهي، وقد نشرت بعضاً من مقتطفات حديثه في روافد، ومما باح به رحمه الله عن مسيرة حياته الحافلة بالتعليم، والتأليف، والسفر، والاعتقال، وتعليم المرأة، ومعاركه الأدبية، وحياته كرجل نباتي لا يأكل اللحوم من أربعين عاماً، ويردد ساخراً المقولة العربية السائدة، بأن العرب تحب اللحم لثلاث...، وله برنامج غذائي وآخر رياضي، يمارس المشي يومياً والسباحة مرتين كل أسبوع، فكان برنامج المشي يومياً ذهاباً وإياباً، يتراوح ما بين الذهاب إلى جبل قاسيون أو مسجد ابن عربي، ويمني النفس بالذهاب إلى معرة النعمان، لتحية شيخه وشيخي فيما بعد أبي العلاء المعري، وقد كان يردد في مشينا كل مرة أبيات الشعر:

خفف الوطء ما أظن أديم الـ

أرض إلا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدُم العهـ

ـد هوان الآباء والأجداد

سر إن اسطعت في الهواء رويداً

لا اختيالاً على رُفات العباد

رُبَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً

ضاحكٍ من تزاحم الأضداد.

كان المشي معه في شوارع حي الصالحية ومرافقته متعة بين زهورها التي طالما مجدها الشاعر نزار قباني، فيتحول المشي أحياناً إلى حالة طوارئ، تفرضها طيبته وتواضعه وشفقته الإنسانية، بالذات إذا التف الناس حولنا، وما دمت في ممارسة المشي أتذكر أطرف ما سمعته منه في المشي، وروى شيئاً من قصصه حينما كان طالباً في مكة، يدرس في أحد معاهدها العلمية، ومعه صديقه وزميله (راشد)، وراشد هو الذي يتداول عنهما الناس قصة أكل الفول وشرب الشاي الشهيرة، وقد جاء والد راشد من نجد ممتعضاً، ويشعر بغضب مما يأكل ابنه في مكة، ومثلها قصة بائع البطيخ (الحبحب) الحجازي، وكان البائع يعتمر كمراً ومعه سكين، وقد شتمهما شتيمة مقذعة لما طلبوا منه سعراً مناسباً، جعلت أبا سهيل بجسده النحيل، وقد شعر بمرارة الشتيمة، يبتعد عنه قليلاً ويتحداه نيابة عن راشد الذي ورطهما بشراء البطيخ، ويضحك لما يتذكر أنه كان يضع أصبعيه في أذنيه لما يمر في أحد شوارع مكة ويسمع صوت الموسيقى يصدر من إحدى نوافذها وأبواب بيوتها، فقلت له مندهشاً:

- لماذا يا أبا سهيل؟.

فيرد ساخراً وضاحكاً:

- كنت وهابياً متشدداً..!

ويحكي عن رحلته مع التعليم، وتأليف المناهج في بداية التعليم، واعتقاله بسبب نشره مقالاً يطالب بتعليم الفتاة، وتدريس الأمراء في معهد الأنجال، ومرافقة أحد طلابه من الأمراء إلى باريس، وبقي فيها عاماً وله كتاب عن ذكريات باريس، وقد تعلم فيها قيادة السيارة، والبقاء فيها سنة وتعلم اللغة الفرنسية بعدما تجاوز الستين من عمره، وأتذكر ما دمنا في باريس، قصة عن وفائه الحميمي لأصدقائه، ولن أنسى قمة الوفاء، وحرصه على حضور عزاء أبنائي، فقد حرص ذات ليلة على حضور معرض تشكيلي، أقامه الفنان الراحل -رحمه الله- عبد الجبار اليحيا في السفارة الفرنسية، وكان لأبي سهيل برنامج لا يخلفه مهما كان، إذ يخلد إلى النوم في حدود العاشرة، وفرض علينا برنامج الحفل أن نعود في وقت متأخر، وتقبل ذلك بطيب خاطر، ليتقاسم مع صديقه الفنان اليحيا الفرح، ولما عدنا إلى البيت متأخرين، وعجز لما حاول أن يضع المفتاح في ثقب الباب، وتأخر قليلاً فأشفقت عليه، وأوجعني قلبي ولم أحتمل، ففتحت باب السيارة لمساعدته، فنهرني القشعمي لئلا أفعل، ولم أسمع كلامه، واقتربت من أبي سهيل، وطلبت منه المفتاح، ويا للغرابة، يسألني بدهشة:

- لِمَ جئت؟.

فقلت له:

- لكي أفتح لك الباب!

وصدق القشعمي، إذ رفض، وقال لي:

- إذا فتحت لي الليلة، فمن سيفتح لي غداً؟!

والجهيمان -رحمه الله- يمتلك عزيمة وإرادة وعزة نفس وشكيمة وصبراً، فقد أراد أحد الكبار -الذين يعرفون قيمته- استدعاءه وتكريمه كما يفعل مع بعض الكتاب والشعراء، ولكنه اعتذر بلطف، معللاً ذلك بكبر سنه، فما كان من الآخر إلا أن بعث له بشيك، وحينما كان لا يستطيع رفض الشيك والتكريم لعدم حاجته له، جمع نسخاً متنوعة من كتبه، وسجل بها فاتورة قيمة الكتب إلى مخازن صاحب الشيك، والجهيمان لا يرفض التكريم لوجه التكريم، فقد حضرت له حفلات تكريم كثيرة، كانت منها حفلة نسائية اعترافاً بفضله على تعليم الفتاة، أقامتها له الجمعية الخيرية النسائية في المنطقة الشرقية، وحضرت حفل تكريم أقامه له رجال الوشم في مدينة شقراء، وتفاجأتُ به يختارني أحد المتحدثين في الحفل، فكتبت كلمة قصيرة على عجلٍ، وأخذني الحماس وتحدثت بتلقائية وعفوية ولكنة جنوبية، كانت مصدر غرابة للحضور وتندراً منه فيما بعد، خصوصاً لما ختمت كلمتي بأبيات أمل دنقل الشعرية، وقلت:

تفرّدت وحدك باليسر

إن اليمين لفي الخسر

أما اليسار ففي العسر

إلا الذين يماشون

إلا الذين يعيشون..

يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعشون

إلا الذين يشون

إلا الذين يوشُّون ياقات قمصانهم برباط السكوت!

........................................... يتبع

- الرياض