Saturday 25/10/2014 Issue 448 السبت 1 ,محرم 1436 العدد

علي الدميني

«رقص» وسؤال «الحوارية»!!

25/10/2014

(أبواب الأسى وشبابيك الحنين) (4/4)

عُرف د. معجب الزهراني بأنه من أبرز المشتغلين على تبيئة الحوارية ومفاهيمها الأساسية، في ساحتنا الأدبية، سواءً عبر قراءاته النقدية للرواية، أو من خلال انهمامه بإنتاج خطاب حواري في المجال الثقافي، ارتكز على القول ب «نسبية الحقيقة»، وتعددية ممكنات النظر إليها، من منظور العمل على زحزحة البنى والتصورات الجامدة من مواقعها الصنمية، وزجّها في حوار التأمل والتساؤل والنقض والتفكيك.

و حين نبدأ في قراءة «رقص»، فإننا سنخال للوهلة المتعجلة، بأن رائد الحوارية المحلية، قد خانها في أول أعماله الروائية!

وحيث أعلم بأنه سيرد علينا مبتسماً، بأن «رقص» تندرج ضمن سياق رواية «السيرة الذاتية»، ومن الطبيعي أن تغيب عنها « الحوارية «، إلا أنني لن أدعه ينجو ضاحكاً من هذه المساءلة الحوارية، بطبيعة التّبني، حيث سأقف أمام النقاط التالية:

1ـ يشغل المتخيل السردي – دلالة وتشكيلاً – حيّزه الرئيس في هذا العمل، حيث عمل الروائي، بما يمتلكه من خبرة معرفية ومهارات حكائية، على تحويل شذرات واقعية من سيرتي «البطل الإشكالي» سعيد، والمثقف الإشكالي المتمثل في السارد، إلى معمار نص يقع خارج سياق السيرة الذاتية، وينتمي إلى حقل المتخييل السردي. ويمكننا باختصار أن نشير إلى أبرز عمليات التحويل الفني، ابتداءً من تخييل دلالات «رقص»، ثم من القدرة على تفكيك الزمن الخطي للسيرة، وتعدد الشخصيات المساعدة، وتفتيت الحبكة السيرية، والارتقاء بها بعد ذلك من نفعية التعبير القصدي للنص، إلى آفاق جماليات كتابة تأملية، ونقدية جارحة، استدعت الملحمي والاسطوري والواقعي، وقامت بتوظيفها ضمن بنية نصية متماسكة، تدثرت بالحكمة وشعرية رهافة التعبير المباشر أو الإيحائي، الذي يحيل إلى مرجعياته في البنى والمؤسسات المهيمنة على كل تفاصيل حياة واقعنا المحلي المختنق! وما دامت هذه القراءة، قد تبنّت، وبعناد حجري، مسألة تنسيب هذه الرواية إلى فضاء المتخيل السردي، فسيصبح من حقها بعد ذلك أن تتساءل عن غياب الحوارية بين بطلي النص، وقد اجتمعا معاً في حوار حضر بشكل مباشر أوغير مباشر، في معظم صفحات الرواية؟

لقد كان من الأولى وقد انبنت الرواية على فاعلية شخصيتين تتمتعان بثروة تجربة حياتية ومعرفية غنية، أن تتجلى في ثنائية وجودهما « مسافة» تسوغ شروط حوار الشخصيات الروائية، بحسب باختين الذي يرى أنه « لا حوار بين شخصيات متطابقة» (فيصل دراج – نظرية الرواية والرواية العربية « – ص71). وبدلاً من ذلك، فإننا حين نتأمل حوار بطلي النص، الاستدعائي لاستثارة الذاكرة حول التجربة، والتكاملي حين يشكلان منظوراً تتقارب فيه أوجه التحليل والتعليل والمقاربة، سنجدهما – وغالبا ما يتجلى ذلك- متناغمين، لا متحاورين، إلا في قلة من القضايا غير الرئيسية، حيث يشير السارد في (ص 89 ) إلى ما قاله «سعيد» عن أهمية تحويل الحياة الجارحة إلى حكايات قد تتعلم منها الأجيال القادمة، وحول الكتب التي قد تتحول إلى خدعة كبرى... وفي نهاية هذه الفقرة يتم تأكيد التوافق بينهما، حيث يقول: « ضحك «سعيد» بصوت عالٍ، فتيقنت أننا نرقص على الأوتار ذاتها «

2ـ وإذ نرى بأن ما اسميه ب « الحوارية الداخلية» من منظور النبرة العالية - والتي كان يمكن أن تشكّل «مسافة» حوارية بين بطلي النص- تكاد أن تكون غائبة، او أنها ذات نبرة خافتة، إلا أن النص سيحتفي بتجليات أخرى ل «الحوارية» وفي مستويات نوعية متعددة، يمكن الوقوف على بعضها، استعانة بآراء «باختين»، فيما يلي:

ـ حفل حوار بطلي النص، بتأملات نقدية عميقة لكافة البنى الاجتماعية والفكرية والسياسية السائدة، اتفقت في تساوقها على النهوض من أرضية «نبذ اليقين وتوهماته، حيث تغدو كل القضايا والقناعات مفتوحة للمساءلة» (فيصل دراج – نظرية الرواية والرواية العربية)

ـ عمل حضور الشخصيات المساعدة في النص والحكايات المتناسلة منها (الأم، الزوجة، راشد، الشاعر خرصان، الأب، الحبيبة ناتالي، والصديقة هلموت، ومديرة المعهد الدراسي، والطلاب في باريس، واحتفالية الرقص في الشارع .. الخ) على إخصاب خطاب الرواية بتعددية « تشمل اللغة والثقافة والنظر إلى الواقع، لا لشيء، إلا لأن التعدد ذاته صورة من التحرر، ودربٌ إليه» (المصدر السابق – ص76). وقد عبّرت تعددية الألسنة في الرواية عن تحرر الذات من تمركزها المنغلق حول ذاتها، «ليظهر عالمٌ آخر، تتبادل فيه الألسنة إنعاش بعضها بعضاً، وتدبّ الحيوية فيما بينها» (المصدر السابق – ص 80 )، حيث نقرأ ذلك في في سلسلة العلاقات التي أنشأها السارد مع المكان، والمرأة، ومحبة الحياة، ويغدو أكثر تجل ياً في رمزية علاقة بطل الرواية «سعيد» بالفتاة الفرنسية (ناتالي)، التي شكّلت بؤرة ضوء تنويرية وتقدمية في حياته، جعلته يعود بعد كل سنوات السجن والعناء للبحث عن آثارٍ تقوده إليها، أي إلى وطن التنوير، فرنسا. وفي هذا الإصرار ما يؤكدعلى دلالة أهمية ذلك المكون التعددي، وانطواء المثقف المستنير على نزعة الرغبة في التواصل والحوار مع الآخر البعيد عنه، والذي يلتقي معه حول مشتركات التطلعات الإنسانية الكونية العميقة، القادرة على تعميق الحوار بين الشعوب المختلفة الأعراق والديانات والمرجعيات الثقافية.

*ـ شكّلت فاعلية استعادة الرواية للحياة القروية القديمة، في عفويتها وطبييعية ارتباطها بالمكون العقدي والاجتماعي في الجنوب، قبل أن تطاله عمليات التجريف العقدية المتشددة، بؤرة حوارية نقدية شديدة المفارقة، حيث يبدو القديم عالماً جميلاً لا انغلاق فيه، وأعمق دلالة على معنى الانفتاح على الحياة، وأكثر أحقيةً (بالاحتفاء والاحتذاء) من واقعٍ جديدٍ صامت ومغلق، يعمّ كافة منافذ مجتمعنا المحلي اليوم!(بتصرف عن الفكرة الأساسية الواردة في المصدر السابق – ص81)

3ـ وبعد كل هذه التفصيلات المهمة، أصل إلى أن ما أشرنا إليه من ملامح حوارية خافتة تلمسناها في الرواية عبرحوار بطلي النص، وإلى ما ألمحت إليه من حضور بؤر «حوارية داخلية» أخرى خارج حوارهما، لا يمكن أن تلغي عن النص حواريته، وإنما تقودنا بوعي لأن نتلمسها فيما أسميه ب «الحوارية الخارجية»، المتمثلة في صراع البنية «الحجاجية» الداخلية، مع ما يقع خارجها، من بنى ثقافية، واجتماعية، وعقدية، وسياسية، حيث يجيب «سعيد» على تساؤلات السارد عن تجربته النضالية، بقوله: «أرجو الا تتوهم أن هذه الأحداث الصغيرة هي التي دفعتني للمغامرة بحياتي. كنا مناضلين لا فرسان قبائل. ولست أقل وفاءً للوطن من أمراء العائلة وموظفي الحكومة. خصومتي كانت مع طريقة الحكم لا مع الدولة... في السنة الأخيرة من السجن، طُلِب مني أن أكتب رأيي في الإصلاحات المطلوبة، بكل صراحة، وقد ركّزت فيها على ضرورة التحول التدريجي..» (رقص – ص 201).

وعبر خطاب التشكيل الروائي، جمالياً ودلالياً، يمكن – بحسب باختين - استعادة حوارية الهجاء والسخرية والقدح، باعتبارها أساليب نقدية لمنظومات قيمية يا بسة، حيث يحرضنا الخط الحواري الخارجي في هذا العمل على كشف وتعرية الأسس التي تستند عليها خطابات مجموعات منغلقة عملت على خنق إمكانات تطورنا الحضاري، ودأبت قواها المعلنة والمستترة على طردنا من حياتنا، وحرماننا من حقوقنا الطبيعية، حتى في الإيمان والتعبد !

وفي هذا السياق نستحضر حديث «سعيد» عن الفهم العميق والبسيط للدين الذي كان يعمر قلوب الناس البسطاء في تلك القرى، حيث يروي أن والده، الشيخ الوقور، قام بالرد على مراهق يلعن الفرق الإسلامية، في مجلسٍ عامر بالناس، قائلاً: «اتق الله يا ولدي.. من علّمك تفتي وتفتن وأنت ما خُلقت إلا البارح؟ الدين جاء من مكة ومن المدينة وليس من الرياض أو بريدة. ثم ما تدري أن المسلم من سلم الناس يده ولسانه؟؟ ولو صليّت شافعياً في مكة، ومالكياً في المدينة، وحنبلياً في الرياض، وزيدياً في صنعاء، وإسماعيلياً في نجران، وحنفياً في القاهرة، وشيعياً في النجف، وأباضياً في نزوى، فهي مقبولة إنشاء الله.. ديننا واحد، ونبينا واحد، وكتابنا واحد.» (رقص- ص178).

سطر أخير

«رقص» رواية متميزة، في أبعاد بنيتها الجمالية، وفي فضاء دلالاتها العميقة والجريئة، أنجزها كاتب متمكن من أدواته الإبداعية، وتستحق القراءة والاحتفاء، حيث أعدها واحدة من أجمل الأعمال الروائية التي صدرت في بلادنا خلال العشر سنوات الماضية.

** ** **

مراجع القراءة:

* ـ فيصل دراج - نظرية الرواية والرواية العربية – المركز الثقافي العربي – الطبعة الاولى – 1999

* ـ معجب الزهراني – رقص – دار طوى – الطبعة الاولى – 2010

* ـ حسن بحراوي – بنية الشكل الروائي – المركز الثقافي العربي- الطبعة الأولى – 2009

* ـ يمنى العيد – الرواية العربية – المتخيّل وبنيته الفنية – دار الفارابي – الطبعة الأولى 2011

* ـ معجب الزهراني – مقاربات حوارية - نادي مكة الأدبي/ الانتشار العربي – 2012

* ـ علي الشدوي – تأملات في تجربة غامد وزهران الجمالية – مخطوط - 2014

- الدمام