Culture Magazine Monday  22/10/2007 G Issue 219
فضاءات
الأثنين 11 ,شوال 1428   العدد  219
 

مساقات
(مصير اللغة العربية)
د. عبدالله بن أحمد الفيفي

 

 

أن تُعلن منظمة اليونسكو: أن اللغة العربيّة ستنقرض بنهاية هذا القرن ولن تعود لغة عالميّة، لا غرابة ما دام واقع الحال يشهد هذا الإحياء للعاميّات والتنظير لها، ممّا لم يشهد له العرب مثيلاً عبر تاريخهم كلّه، وكأنه تأسيس لتراثات بديلة ولغات بديلة وآداب بديلة، مستغلّين مختلف التقنيات الحديثة، التي لا هُم أفلحوا في تصنيعها، ولا هُم أفلحوا في استغلالها فيما ينفعهم، بل ليتهم يكفّون عن استغلالها فيما يضرّهم ويخرب بيوتهم!

العالم المتحضّر يطلق قنواته العلميّة حول الفضاء والكون، وقنواته التعليميّة حول التاريخ والطبيعة، وقنواته التثقيفيّة عن البيئة والصحة والآداب والفنون، والعرب في بضع سنين يطلقون قنواتهم المدفوعة الثمن لبناء مختلف ظواهر التخلّف التراكميّة، وهَدْم كل بناء ناجز أو مأمول، من قنوات العاميّة المتناسلة بالانشطار، إلى قنوات السحر والشعوذة، إلى آخر ما ستتفتق عنه قرائحهم ومخيّلاتهم الخصبة!

وعليه يظهر استنتاج منظمة اليونسكو استنتاجًا شديد التفاؤل والمجاملة، فلعل من أوردوه في تقاريرهم لا يدركون أصلاً مدى الشرخ الحادث بين الفصحى والعاميّة في دنيا العرب، كما لا يقدّرون حقّ القَدْر تلك الاجتهادات العربيّة المشهود لها في توسيع ذلك الشرخ عبر الإعلام والتعليم.

لقد كنّا في القرن الماضي نتقلّب في سراديبنا، فمن مستعمر غازٍ إلى مستعمر وطني- كما قال الشاعر البردّوني- إلا أننا اليوم نتقلّب عليهما معًا، بين اللغات الأجنبيّة واللهجات العاميّة، ولتحيا العولمة وثورة الاتصالات الحديثة!

لننظر- بالمقارنة- كيف تهتمّ الأُمم الحيّة بحماية لغاتها؟

هذه فرنسا - مثلاً - تستنجد بالمتخصّصين لحماية لغتها، كما ورد في خبر نُشر في جريدة (الوطن)، الخميس 25 صفر 1428هـ، بعنوان: (جيش من اللغويين الفرنسيين لحماية لغتهم). يقول الخبر: إن الجهود التي بذلتها الدوائر اللغويّة الفرنسيّة لوقف زحف الإنجليزيّة على رمز ثقافتها (اللغة الفرنسيّة)، تشكو من زحف مفردات يوميّة على اللغة الفرنسيّة في العام الماضي.

فإذا سألنا عن تلك المفردات الزاحفة على اللغة الفرنسيّة في العام الماضي، وجدناها مجرّد مفردات ممّا يتشدّق به العربيّ اليوم صبح مساء، جاهلاً ومثقفًا، ليُظهر عصريّته، بمناسبة وبغير مناسبة، كعبارة (نهاية الأسبوع)، وأسماء (الوجبات السريعة)!

وتأتي هذه المعركة الفرنسيّة مع الإنجليزيّة في الوقت الذي تحتفل فيه فرنسا بأسبوع اللغة الفرنسيّة. ويقول مسؤول حماية اللغة الفرنسيّة ومراقبة تطبيقها محليًّا وخارجيًّا أكسافير نورث: إنه قد بلغ بنا الحال أن نأخذ الكلمات الإنجليزيّة دون أن نُضفي عليها طريقة النطق الفرنسيّة مثل (احتفاء كبير)، و(خيارات الأسهم)؛ بسبب تعطّش السياسيّين للظهور أمام كاميرات المصوّرين. وفي أحيان كثيرة لا تتغير حتى طريقة الإملاء للكلمات.

تُرى إلى أين بلغ بنا الحال، نحن العرب مقارنة بالعَجَم؟! وهل هناك في العالم العربيّ كلّه مثل تلك البدعة الضَّلالة في فرنسا: (جهة مسؤولة عن حماية اللغة العربيّة ومراقبة تطبيقها محليًّا وخارجيًّا؟!) كلاّ، بل هناك جهات مسؤولة عن حماية اللغة الإنجليزيّة من اللغة العربيّة ومراقبة تطبيقها محلّيًّا وخارجيًّا، بل الأجدى من ذلك كله اليوم سَنُّ تعليم اللغة الإنجليزيّة في مراحل التعليم المبكّرة، لكي يتشربها جلينا القادم، ولا يعاني معاناته المزمنة في استساغتها وتذوقها واستعمالها، فتظلّ حلمًا اغترابيًّا بعيد المنال، ولكيلا يُزجّ بأبناء العروبة خارج دائرة الاستلحاق (الأنجلو-أمريكيّة)، فيتخلّفون عن ركب نهاية التاريخ!

فرنسا تهبّ لحماية طريقة النطق الفرنسيّة في حدّ ذاتها، وتستنفر جيشًا ضدّ (الأنجلة)، مخافة غزوٍ لغويّ من خلال مفردات الحياة اليوميّة، وكأنها في حالة حرب؟! يا للتعصّب الفرنسيّ والجهالة!

الحضارة هكذا لا تتجزّأ، كما أن التخلّف كذلك لا يتجزّأ!

ويضيف الخبر: إنه في سياق الجهود المبذولة لوقف تدفّق سيل الكلمات الإنجليزيّة جنّدت الحكومة (الفرنسيّة) جيشًا من المساعدين اللغويّين للمساعدة، إلاّ أن محاولاتهم الرامية لردّ بعض الكلمات إلى أصولها الفرنسيّة قد باءت بالفشل. وكشف نورث أنه - وفي كل شهر- تقوم (18) لجنة مصطلحات تابعة للحكومة بإرسال قائمة من (الكلمات الرسميّة الجديدة للاستخدام من موظفي القطاع العامّ؛ وذلك بهدف جعل الفرنسيّة لغة منتجة وملائمة للتعبير عن الحداثة). وتتمثل وظيفة الإدارة التي يقودها نورث في (ضمان أولويّة سيادة اللغة الفرنسيّة في كافة أجزاء الدولة)، إضافة إلى(ترقية وتطوير عمليّة توظيف اللغة الفرنسيّة وتفضيل استخدامها كلغة عالميّة للتواصل).

كل هذا والفرنسيّة والإنجليزيّة من أرومة واحدة! ومعروف كذلك ما تدعم به فرنسا، وبميزانيات مباشرة، عملية الفَرْنَسَة، لفرض لغتها في المؤتمرات، والمحافل الدوليّة. ولا غرو، فتلك أمّة تحترم ثقافتها، وجذورها، وكيانها، وتدرك ماذا تعني اللغة في ذلك كلّه!

على حين يواجه من يلفت النظر هنا، في عالمنا المنعوت بالعربيّ، إلى خطأ لغويّ أو خطر على العربيّة، صنوفًا من السخرية، والنَّبز بالتراثيّة البالية، والتحجّر، والتخلّف؛ إذ صارت التبعيّة للمتقدّم نبراس التقدّم! كما بات يُنظر إلى الالتزام باللغة العربيّة على أنه خاصٌّ بزمرة متخصّصة في مجال اللغة، محنّطة العقول، يُضرب بها المثل وتُروى عنها نوادر العرب!

لماذا؟ لأن الغالب أجمل دائمًا وأعقل وأكمل، كما أخبرنا ابن خلدون قديمًا، والمغلوب يُثير الازدراء، حتى من نفسه لنفسه! وكذلك كان العرب يوم كانوا هم الغالبين. ففي الأندلس، على سبيل المثال، كانت الكنيسة تضجّ فَرَقًا من غزو العربيّة لغة النصارى في الجزيرة الأيبيريّة، طَوْعًا وحُبَّ محاكاة، خوفًا على لغة الصلاة والطقوس الدينيّة والهويّة الثقافيّة.

ولا تنجو أُمّة من معاناة مثل ذلك الصراع اللغويّ الحضاريّ، كما لُحِظ في النموذج السابق عن الثقافة الفرنسيّة، غير أن الفرق بيننا وبين أُمّة كفرنسا أنّ لديهم كوابح حضاريّة، فيما هي لدينا في حالة ارتخاء، أو تَلَفٍ، أو حتى لا أهميّة لها في تقديراتنا الحصيفة كالعادة! إن الفرق بيننا وبينهم كالفرق بين جسم صحيحٍ وجسم مصاب بفقدان المناعة المكتسبة! فرق كامن في الوعي المسؤول، الذي يحول دون الانزلاق لديهم إلى الهاوية ويدفعنا نحن دفعًا إلى أعماقها أكثر فأكثر!

وفي مقابل الحرب الفرنسيّة ضد الأَنْجَلَة، ما تزال أعمال مجامع اللغة العربيّة ومقترحاتها لحماية اللغة العربيّة، كأعمال هيئات حماية البيئة والحياة الفطريّة العربيّة، تمامًا بتمام، معطّلة، أو مستثقلة، في عالم الفوضى وحُبّ القنص ونزوع التصحّر! وما زالت الدول العربيّة- التي تعلن دساتيرها أن اللغة العربيّة هي لغتها الرسميّة - مستخذية للّغات الأجنبيّة من جانب واللهجات العاميّة من جانب، تتنافسان كلتاهما على نهش إعلامها وتعليمها ومنابرها العامّة والخاصّة.

لذلك تغدو أيّ بارقة أمل لردّ الاعتبار إلى اللغة العربيّة الأُمّ - التي ضيّعها أبناؤها، أو قُلْ باعوها في المزاد اللغويّ - محلّ ترحيب وتفاؤل، مهما اكتنفتها من هنات. ومن بوارق الأمل تلك ما تبنّته هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث من مهرجان باسم (أمير الشعراء)، للشعر الفصيح، كان بمثابة ردّ لسيّدة اللغات إلى سدّة عليائها وشرفها وزهوها، والكشف عن مواهب شعريّة عربيّة رائعة، غائبة أو مغيّبة أو مهمّشة، من مسقط إلى نواكشوط.

ولهذا الموضوع مساقنا المقبل، بإذن الله.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

*عضو مجلس الشورى aalfaify@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة