الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 23rd January,2006 العدد : 137

الأثنين 23 ,ذو الحجة 1426

رؤية الشمس في منتصف الليل !

د. عبد الله الفَيْفي
اتضح في المساق الماضي أنّ أحمد أبا دهمان في نَصّه (الحزام) قد وظّف الأسطورة ليعبّر عن مرور الكاتب - بوصفه نموذجاً للحضارة العربية - بمرحلتين من حياته، أو من حياة السارد: تلك المرحلة التي كان فيها يرتبط بالقرية، التي يجسّد علاقته بها من خلال علاقته بحبيبته فيها - (قوس قزحه) كما يسميها (ص76)، أو بمدلول آخر: امرأة القرية - الرامزة إلى الأرض والخصب والحياة في القرية. تماماً كما كان الشاعر الجاهلي يستخدم مفردة المرأة - بقرائنها، من الإشارات إلى الماء والمطر والنبات، فضلاً على التركيز على خصوبة الأرض - للغرض نفسه.
ثم تأتي المرحلة الأخرى من تجربة الكاتب، وهي مرحلة الانقطاع المعرفيّ والتاريخي عن هذا كله. ذلك الانقطاع الذي كان يراوده منذ أن كان في القرية، مومئاً إلى هذا بذلك الجدل الذي قام بينه وبين (حزام) - الشخصية الأسطورية، التي يمكن القول إنها كانت تمثّل (الضمير الجمعيّ) للقرية - حيث يقول (ص79 - 80):
(نبهت حزاماً إلى أنّ بعضهم يقول بانّ القمر كان هو المرأة.
- هذه أيضاً أُمّك - مرجعيتك - التي قالتْ لك هذا؟ أنت ولد أُمّك فعلاً. وعليك أن تسكت. أمّا أنا فإني على يقين بأنّ في كل امرأة شمساً. انظر كم هنّ مضيئات. ولهذا أتجنبهن. لأن أي شمس لا بدّ من أن تُحرق.
- ولكن كيف يمكن أن أرى الشمس في عزّ الليل إذا كانت تقضي وقتها في امتصاص البحر؟
- الشمس تضيء وتحترق طوال النهار، وفي الليل عندما تختفي وراء هذه الجبال، فإنّها إنّما تشرب البحر، ثم تتحوّل إلى امرأة على هيئة نجمة. الذين رأوها يؤكدون أنها أجمل نجمة، تجتاز السماء من المغرب إلى المشرق، وإذا استطعت أن ترى هذه النجمة فقوس قزح مُلككَ وسرّ حياتك وبقائك.
كنتُ أعرف أنّي لم أعد في سنّ الرضاع، وأنّي لن أكون شاعراً حقيقيًّا، لذا قرّرتُ أن أجرب آخر حظوظي. رؤية الشمس في منتصف الليل).
وكأن الكاتب يُلْمع إلى ضرورة استعادة ما سُلب إيّاه الشرقُ الإسلاميّ من إشراقٍ، أصبح يجتاز السماء من جهة الغرب، وأن عليه أن يمتلك ما امتلكه هذا الغرب من أدوات، كي يصل إلى أحلامه الحقيقية الخصبة الملوّنة.
ذلك هو الإسقاط الدلالي الذي يمكن أن تؤوّل إليه سِيْمَوِيَّات هذا المقطع. على أن العلاقة بالشمس هنا لا تعني العلاقة بأمومة التراث على طريقة أُمّ الراوي، بل العلاقة به شمساً مستعادة فاعلة مشرقة ذات أثر، كما كان حزام يحرّض الفتى أنْ يفعل. وقد عبّر الكاتب عن اقتناعه برأي حزام؛ إذْ لم يعد في سنّ الرضاع كما كانت تُوْهِمُه أُمُّه، ولن يكون شاعراً حقيقيًّا. ولذلك لجأ لاستفتاء جارته العجوز - وكأنما هي، كما مرّ، رمزٌ للآخر الغربيّ - تلك العجوز (التي لا تنام إلا نادراً والتي لا تَفتأ تتكلّم بصوتٍ عالٍ، وكانت تعرف مسبّة كلّ شخص في القرية). (ص80). بيد أن المفارقة تنشأ عن أن هذه الجارة العجوز - عندما لجأ إليها - رافقته ليليًّا لفترة طويلة. وذلك - كما يقول:
(لا لرؤية هذه النجمة الحلم، وإنما لتعليمي مسبّات كل فرد في القرية، انتصارات بعضهم في مغامراته، وانكسارات البعض الآخر. أسرار الجميع - الأسرار الحقيقية والخاطئة. علّمتني الوجه الآخر الخفيّ للقرية. ولم تستثن أحداً إلا أُمِّي لأنّها وحدها لم تكن تشتم أو تسبّ أحداً ولأنّها كانت تعطي هذه العجوز ليليًّا بعض اللبن والسمن، بعلم أبي أو بدون علمه). (ص80-81).
وما هذه الأُمّ التي أشار إلى بقاء علاقتها الطيبة مع جارته العجوز إلا إشارة إلى ذلك البُعد الحضاري الإنساني، الذي هو محايد في عطائه وأخذه. وكأن الأمّ هنا هي المعادل الموضوعي للحضارة العربية، في مقابل الجارة العجوز، الحضارة الغربية.
وبناء عليه سينتهي السارد إلى مرحلة التحوّل الانقطاعي النسبيّ في علاقته بالماضي والتراث، بفضل تلك الجارة العجوز، وقد أفضى بهذا في قوله:
(في النهاية نسيت أنّي أنتظر الشمس، لكنّي بفضل هذه العجوز، اكتشفتُ التاريخ الخفيّ للقرية وبدأتُ أنظر إلى الناس من حولي بطريقة مغايرة، وكل مرّة أرى أحدهم أضحك لوحدي، لكن بدون أن أجرؤ على أن أكاشفه بحقيقته لسبب وحيد، وهو أنّ مسبّاتهم مسبّة لي شخصيًّا؛ لأن القرية كانت كإنسان واحد. حتى البيوت المتداخلة على هيئة أبناء العمّ، لكل بيت مدخلان، أحدهما على الأرض والآخر على السطح، بحيث كان في إمكاننا أن ندخل كلّ بيوت القرية من سطوحها). (ص81).
ونسيانه انتظار الشمس هنا كان نسياناً لانتظار الشمس بوصفها حُلماً ماضويًّا خياليًّا، والاتجاه إلى اكتشافها في تاريخ القرية وواقعها معًا. وبذا صار بإمكانه أن يدخل بيوت القرية (بيوت التراث والماضي) عن طريق أبوابها الأرضية أو السطحية، دخولاً انتقائيًّا نقديًّا، غير محكوم برؤية ما كانت تراه أُمّه أو حتى ما كان يراه ضمير القرية: (حزام).
ومع هذا فقد ظلّ في نظر أهل القرية - عبر هذه التجارب الثلاث: من حماسته الدينية، إلى مغامراته الفاشلة، إلى مرحلة انبهاره بالآخر وضحكه على أهل القرية - مجنوناً، أو في حالة جنون وراثيّ، كابن عمه الذي مرّ بتجربة شبيهة - كما قال - لمّا قفز من الطابق الرابع في بيته، متخطيًّا الحقول المغمورة بالماء المحيطة بالقرية دون أن يتبلّل، كما لو كان يطير. كان (غريقاً في جنونه فما خوفه من البلل!). وهذا الجنون قد أحدث قطيعة (ابستمولوجية)، لا بين الراوي وأهل القرية فحسب، ولكن مع تلك العجوز أيضاً، حيث تنكّرت لكل ما رَوَتْه له. (ص81 - 82). أي أنه كان قد وصل إلى الاستقلال الوجوديّ والفكريّ التام، عن محاكاة ماضيه أو محاكاة الآخر.
أمّا حزام فقد كان شخصية براجماتية، يتّهم الأُمّ والشعر والمدرسة، ويوجّه السارد إلى مواجهة الحياة بجدّية واستقلالية. إنه لا يبتسم إلا في موسمَي الحصاد؛ فالابتسام كما قال يعوقه عن العمل. (ص82 - 83). ذلك أن الضحك برأيه يكشف الأوراق للعدوّ، فلا بدّ من ترشيد استهلاكه، حفاظاً على السِّرِّيَّة والجِدِّيَّة في التعامل مع قضايا الحياة.
والتداخل بين الطبيعة والإنسان في رمزية النصّ هو تداخل عضويّ، حيث يصبح (قوس قزح) رمزًا كلّيًّا لكل معاني الخصب والعطاء والتجدّد. وهو يراه دائماً في أبهى تجلّياته حينما يستيقظ على إدراك الحقائق بصحبة حزام غالباً، أي حينما تشفّ بصيرته عن أمله المنشود في التحوّل المستقبليّ الأفضل. وعندئذٍ يكتشف أنه ليس بمجنون، (وأنه بمجرّد أن يتوقّف عن الغِناء سيصبح رجلاً). (ص85). أي سيرى العالم على حقيقته بعيداً عن سلبيات الشِّعْر وأوهامه.
وهنا المفارقة تتبدّى من أن الكاتب يتبنّى خطاباً شِعْريًّا في الوقت الذي يُدين الخطاب الشِّعْريّ رمزيًّا.
وفي المساق الآتي نقف من هذه القراءة على موضوعة اكتشاف الأنا والآخر في (الحزام).


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved